أنا شاب في الثلاثين من عمري, لي شقيق يصغرني..
نشأنا في بيت كبير دافئ, في ظل أبوين حنونين, تزوجا بعد قصة حب كبيرة,
جعلتني في سني عمري الأولي أعيش بهجة لاتفارق مخيلتي, لأنها كانت قصيرة, وسرقت
مني في غفلة, لتتركني أواجه ذكري من المرارة لاتفارقني.
بدأت المأساة ـ سيدي ـ عندما سافر والدي, مثل غيره, إلي الخليج, بعد أن جاءته فرصة جيدة سترفع مستوي معيشتنا, وقد رحبت والدتي بذلك, مؤكدة أنها ستتحمل تلك الفترة التي تمنينا ألا تطول.
بدأت المأساة ـ سيدي ـ عندما سافر والدي, مثل غيره, إلي الخليج, بعد أن جاءته فرصة جيدة سترفع مستوي معيشتنا, وقد رحبت والدتي بذلك, مؤكدة أنها ستتحمل تلك الفترة التي تمنينا ألا تطول.
عاد والدي فجأة من عمله بالخليج.. عاد كما لم يكن عند سفره, عاد مريضا بالسرطان, وفي حال سئ, استدعي دخوله المستشفي, علي أمل انقاذه, وإن كان هذا الأمل ضعيفا, إلا أن ارادة الله ورحمته كانتا أرحم وأوسع.
مكث أبي في المستشفي طويلا, وكنا نتردد عليه لزيارته, فكان يفرح كثيرا بوجودنا, فتزداد رغبته في الحياة, وبالتالي قدرته علي مواجهة هذا المرض الشرس. لكن الغريب في الأمر, أن أمي بدأت تتململ من زيارتها لأبي, وتختلق الحجج حتي تهرب من هذه الزيارة التي أصبحت ثقيلة علي قلبها, حتي أنها بدأت تفتعل المشكلات مع أسرة أبي حتي تجد لنفسها مايبرر هذا الغياب غير المبرر تحت أي ظروف.. وأصبح أهل أبي يكذبون عليه, ويبررون غيابها عن الزيارة بالمرض مرة, وبالانشغال بنا وبدروسنا مرات, مع اخفاء كل مايحدث بينهم حتي لايؤثروا علي حالته النفسية.
وذات مساء أسود, لايبرح ذاكرتي, يؤلم نفسي حتي هذه اللحظة, استيقظت من النوم, لأفاجأ برجل غريب مكان أبي مع أمي.. انفجرت في البكاء, لم أفهم شيئا, ولم أع بعقلي الصغير معني لوجود هذا الرجل في حجرة نوم أمي, ولكني حزنت لوجود رجل آخر, غريب مكان أبي.. فوجئت أمي بي, وقالت كلمات لاأتذكر منها شيئا, سوي رجائها لي بعدم إخبار أبي أو أي أحد آخر بما شاهدته.. قالت لي ذلك بلهجة فيها توسل وتهديد في آن واحد.
في أول زيارة لي لأبي, لاحظ أني لست طبيعيا, فسألني, عن سر حزني وصمتي, فوجدت نفسي أحكي له ماشاهدته وماقالته لي أمي وليتني مافعلت!
لن أنسي ماحييت تلك اللحظات التعيسة, وأنا أري وألمس دموع أبي الساخنة المنهمرة علي وجهه, وجسده وهو ينتفض, وكأن سكينا مغروس في قلبه, وأنا أبكي في حضنه ولا أعرف ماذا أفعل كي أخفف عنه هذه الآلام.
تدهورت حالة أبي الصحية ووصلت الي أسوأ أوضاعها, مما استدعي اجراء خمس عمليات دقيقة في الأمعاء, الغريب والذي لايصدقه أحد, أن والدتي في تلك الفترة الحرجة أصرت علي الطلاق وبعنف, علي الرغم من محاولات الأهل والأصدقاء لإثنائها عن هذا القرار لحين شفاء أبي, والذي لم يتخذ هذا القرار ولم يسئ اليها علي الرغم مما عرفه عن تصرفها المشين.
أمي رفضت كل الوساطات بقلب متحجر, وقالت إنها شابة وجميلة.
ولن تدفن نفسها وشبابها مع رجل يجلس ملك الموت بجواره.
أتذكر جيدا أن الطبيب المعالج ذهب لأمي وناشدها أن تأتي لزيارته قبل أن يحل القضاء, لأنه مازال يحبها, وزيارته سترفع كثيرا من معنوياته, ولكنها وبكل أسف أصرت علي الطلاق عن طريق المحكمة التي قضت لها أيضا بحضانتنا أنا وشقيقي.
أخذتنا أمي لنعيش اسوأ أيامنا مع أسرتها, وكانت تخصني أكثر بكل صنوف العذاب والاهانات.. أيام مؤلمة عشناها مع أم عابثة مستهترة, لم تراع الله في أولادها, ولم تلتفت إلي كلام الناس عن ماتفعله بنا, فقد كانت ترفض أن نستحم حتي تفوح رائحتنا, فتضطر آسفة إلي الموافقة علي الاستحمام, هذا عدا منعها لنا من زيارة أبي في المستشفي.
لكن الله كان رحيما بنا, حدثت المعجزة, ومن عليه بالشفاء وخرج من المستشفي وهو شبه إنسان, وبدأ يتعافي ببطء حتي استعاد عافيته, فأقام دعوي ضم لنا, فحكمت له المحكمة بذلك وعدنا مرة أخري إلي الحضن الدافيء, وعدنا مرة أخري إلي آدميتنا وإحساسنا بمعني الابوة, فقد كان يغدق علينا بحنان غامر حتي يعوضنا مما عانيناه.
بعد أن تخلصت أمي منا, تزوجت مباشرة, ثم أنجبت من زواجها الجديد ولم تفكر يوما في السؤال عنا أو طلب رؤيتنا, ولكن الغريب أن والدي كان يصر علي ذهابنا إليها كل أسبوع رغما عنا, مبررا ذلك بأنها أمنا وعلينا رؤيتها ومن حقها رؤيتنا.. كان هذا الأب العظيم حريصا علي عدم تشويه صورتها أمامنا ـ أكثر ما هي مشوهة ـ بل كان يلتمس لها الأعذار التي لم تكن تقنعنا ولكننا كنا نقبلها ونوحي له بأننا نصدقها حتي لا نؤلمه.
سيدي.. لا أريد أن أطيل عليك, مرت بنا السنون, وأنا أحارب صورة أمي المشينة التي لا تفارق ذاكرتي, ولولا وجود أبي بحنانه وحكمته لكنت إنسانا مريضا يعالج عند طبيب نفسي. تخرجت أنا وشقيقي في الجامعة, وعند أول فرصة, فررت من مصر, هربت من صورة أمي التي تطاردني, ومن كل الذين يعرفون حكايتها, وهربت إلي أوروبا, وتزوجت من نفس البلد الذي أعمل به, واستمرت علاقتي الدافئة بأبي وأخي.. أما أمي فقد قطعت صلتي بها نهائيا, لا أسأل عنها ولا أحادثها. سيدي.. تسألني أين المشكلة.. والدي وأخي, يلحان علي, خاصة في الفترة الأخيرة, أن أتصل بأمي.
أسأل عنها وأبرها كما أمر الله ـ سبحانه وتعالي ـ خاصة أنها مريضة وتمر بظروف سيئة ومؤلمة.. حاولت كثيرا, ولكن قلبي موصد.. أفكر أحيانا في أن أفعل ذلك إرضاء لربي ولوالدي, ولكني أستعيد كل ما حدث, فأهرب من الفكرة, حتي يعود أبي من جديد ليرجوني أن أفعل ذلك, حتي ازداد شعوري بالذنب, وصرت أعاني من صراع داخلي, لا أعرف كيف أواجهه أو أتجاوزه.. فبماذا تنصحني؟ .

رد الكاتب :
سيدي.. كم هو موقف صعب الذي تقف فيه.. فمن يقرأ سطور رسالتك بكل ما فيها من معاناة وقسوة, لن يفكر طويلا, وسيقول لك إن مثل هذه الأم لاتستحق أي مودة أو رحمة أو بر. فما فعلته يفوق بكثير وصف القسوة أو الخسة, فهي صورة لأم يندر وجودها, نموذج شاذ وغريب علي مشاعر الأمومة الفطرية.
فعلي الرغم من أن الخطيئة غير مقبولة ومرفوضة عند كل بني البشر, إلا أنها تحدث وتتكرر, فإذا تاب المخطيء إلي ربه وحاول التكفير عن ذنبه, وأبدي ندمه علي ما ارتكب في حق الله وفي حق الآخرين يمكن للانسان أن يبدأ من جديد, متلمسا أبواب التوبة والمغفرة وهي متعددة. ولكن ما فعلته والدتك, ينم عن قلب مغلق, وأنانية مرضية, فلم تفكر في زوجها الذي كان أقرب إلي لقاء ربه وهو غاضب عليها لأنها خائنة, ولم تستغل فرصة سماحته وصفاء قلبه ومقدرته الفائقة علي العفو, والتي تتجاوز حدود النفس البشرية, لتذهب إليه وتقبل قدميه وتعيش خادمة له ولكما, سكن قلبها الشيطان وأغرتها الدنيا بشبابها وجمالها, معتقدة أنها قادرة علي اقتناص السعادة, فيما هي سائرة في طريق الألم والعذاب, جاهلة بقصاص الله وانتقامه وعدله الذي لايغيب.
سيدي.. علي الرغم من أنك لم تحدثني كثيرا عن وضع والدتك الآن وموطن آلامها وعذابها, إلا أني أثق في أنها تعيش أياما أسود مما أذاقته لكم وإن لم يحدث حتي الآن, فسوف يحدث, إلا إذا تابت إلي الله وقبل توبتها, وإن كنت أشك في أن هذا حدث حتي الآن, وإلا كانت بادرت بمحاولة استجداء عفوكم عنها, وهذا يعني أنها مازالت مغمضة القلب والأحساس, وأن الله غاضب عليها لم يرد لها الهداية ولم يرفع غضبه ـ سبحانه وتعالي ـ عنها.
ومع كل هذا, أراني منضما إلي صوت والدك الرائع وشقيقك, فأدعوك إلي مزيد من التسامح تلبية للأمر الإلهي, بمصاحبتها في الدنيا معروفا, مبتغيا وجه الله الكريم وإرضاء لوالدك.. فلاتدع الكراهية تسكن قلبك الطاهر, ولا الانتقام يحاصر عقلك, وثق بأنك باتصالك بها ستتخفف كثيرا من عبء الشبح الذي يطاردك, وستسمو نفسك بسمو تصرفك الانساني, متخذا من سبيل والدك, الذي أكرمه الله وعافاه وهو من الصابرين الراضين بابتلائه, فنحن لانفعل الاحسان إرضاء للآخرين, ولكن نفعله تدريبا للنفس علي الطاعة وعدم الاستسلام للهوي وفي ذلك متعة وسعادة بلا حدود. وإلي لقاء بإذن الله.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفاخالف اوامر الله ولكن لا يكلف الله نفسا الا وسعها اخي لقد قست عليكم كثيرا فلتتجرع من نفس الكاس الذي سقتكم
ردحذف