الجمعة، 30 مارس 2018

رسالة (الوجة الضاحك)..خيم السواد على بيتنا السعيد


أنا يا سيدي شاب في الثانية والعشرين من عمري أدرس بإحدى كليات الصعيد وأقيم مع أسرتي في إحدى المدن الصغيرة القريبة من عاصمة الإقليم وخلال الدراسة أسافر كل يوم إلى كليتي وأعود قرب المساء فأنعم بجو عائلي حميم .فأبي يعمل موظفا بإحدى المصالح الحكومية في نفس العاصمة ويذهب لعمله كل يوم معي وقد يمضي أياما في استراحة المصلحة كل فترة , وأمي سيدة متعلمة آثرت رعاية بيتها على العمل ولي شقيقة متزوجة في نفس المدينة وشقيقة أخرى صغرى تدرس بالمرحلة الإعدادية 

, وشقيق أكبر تخرج في كليته الإقليمية وعمل في مدينة أخرى قريبة وأصبح يزورنا في نهاية الأسبوع فيشتعل البيت مرحا وبهجة بمجرد عودته فهو من هذا النوع من البشر الذي لا يعرف في حياته إلا المرح والدعابة والابتسام مع استقامته وتدينه ومواظبته على الصلاة وكان دائما الوحيد الذي لا يستطيع أبي المعروف بجديته وتحفظه أن يقاوم دعاباته المهذبة في حدود الاحترام فإذا أحس بأن وقاره في خطر صاح به وهو يغالب الضحك "اسكت أيها المهرج" فيسكت لأنه يكن له احتراما عميقا ويقول لي دائما أنه أب عظيم ويعتبره مثله الأعلى في الاستقامة وحسن السمعة واحترام الأهل والناس له , كما أنه أب عادل لا يفرق بين أبنائه ولا يقبل الظلم لأحد .

أما أمي فإن فراملها تسيب بمجرد أن ترى وجه أخي الضاحك وهو قادم إلى البيت ظهر يوم الخميس حاملا معه حقيبة ملابسه الصغيرة لكي يستبدلها بملابس نظيفة .. وحاملا معه " هدية " للأسرة من مدينته ولابد أن تكون دائما شيئا غريبا يثير التعليق والابتسام .. فمرة يأتي إلينا حاملا من مدينته كمية من البطاطا المتوافرة في مدينتنا ! ومرة أخرى حزمة من القصب الذي يملأ مدينتنا .. ومرة ثالثة كيسا هائلا من "الشيبسي" مع أن تحت بيتنا محلا للبقالة به أكوام منه .. وذات مرة لم يجد ما يشتريه فجاءنا بجوال من الفحم ! صادف رجلا يحمله قرب بيتنا فاشتراه منه حتى لا يدخل ألينا بيده خالية .. ولكي "تثمر" فينا هداياه في المستقبل كما كان يقول !

وفي كل مرة لابد له من قصة حدثت في القطار وهو في طريقه إلينا فيرويها لنا ونحن نتناول طعام الغداء وتنفجر جنوبنا من الضحك , وفي هذا وغيره يمضي معنا يومي الخميس والجمعة , ولا ينسى في كل أسبوع أن يزور شقيقتي المتزوجة ويتحفها بهداياه المبتكرة وأن يطمئن على دراسة أختي الصغرى ودراستي ويسألني ويسألها دائما هل نحتاج إلى نقود ويبدي استعداده دائما لأن يعطينا ما نريد مع أن راتبه صغير وينفق معظمه على السكن الذي يتقاسمه مع اثنين من زملائه وعلى المواصلات ..فنعتذر دائما شاكرين لأن أبي لا يقصر في حقنا والحمد لله ..

وفي أحد أيام الخميس السعيدة هذه قبل امتحاني بشهر واحد .. جاءنا أخي من مدينته حاملا معه غرائبه المعتادة من عرقسوس وفول سوداني وكركديه مؤكدا أنها من أنواع خاصة غير التي نعرفها في مدينتنا ولم يكن أبي في البيت لأن عمله اقتضى أن يمضي نهاية الأسبوع في عاصمة الإقليم فانطلق أخي على سجيته وجلسنا بعد تناول الغداء وسماع القصة التقليدية نشرب الشاي ونتسامر .. فتألق أخي أكثر من أي مرة في إسعادنا وإضحاكنا حتى دمعت عينا أمي وأختي من الضحك .. وعجزت أنا عن ملاحقته ..فرجوته أن يخف قليلا ,

فنهض مغادرا الحجرة إلى غرفة نوم أبي ثم عاد بعد قليل حاملا معه مسدس أبي القديم الذي يحتفظ به في دولاب ملابسه والذي لم يستخدمه منذ 20 سنة .ويجدد رخصته كل عام , لأنه كان في شبابه مطلوبا بثأر ثم مات طالبه وأمن على نفسه واستراح وحمل أخي المسدس الخالي من الطلقات منذ 20 سنة وراح يداعبني به فيسدده إلي ثم يطلق الزناد .. مرة ومرتين وثلاثا فانصرفت عن أخي بنظري قليلا لأتابع التلفزيون ومل هو اللعبة فجلس قريبا منا ينظف المسدس القديم .. وانشغلنا عنه بمتابعة التلفزيون عشر دقائق فإذا بنا نفيق على صوت رهيب وصرخة هلع مروعة .. ونرى أمام أعيننا أبشع منظر يمكن أن يراه إنسان .. فلم أدر ما حدث إلا من خلال صراخ أمي وأخي الذي يمزق القلب وهما يريان وجه الضاحك وقد غطته الدماء وتجمد من الرعب وبعد ساعات قليلة يا سيدي من هذه الجلسة التي بدأت سعيدة كان أبي قد جاء مهرولا من العاصمة يتعثر في مشيته ويحيط به أشقاؤه وأقاربه .. وكان بيتنا قد امتلأ بالناس عن آخره ...

وكنت أنا واقفا بين اليقظة والغيبوبة إلى جوار أبي وأعمامي وأقاربي أمد يدي لأصافح بلا وعي من جاءوا ليشاركونا هذه المصيبة .

وخيم السواد على بيتنا السعيد .. وخلا من معظم أهله ..فلقد نقلت أمي إلى المستشفى لإصابتها بصدمة عصبية شديدة .. وضم عمي شقيقتي إلى أسرته ليبعدها عن بيتنا وألح على أبي وعليٌ أن نقيم معه عدة أسابيع فرفض أبي ورفضت أنا أن أتركه وحده وسط أشباح الذكريات السعيدة وجاءت شقيقتي المتزوجة لتعيش معنا عدة أيام وتقاسمنا هذه الحياة الكئيبة وبعد شهر خرجت أمي من المستشفى ذابلة الصحة متهدمة كأنما زاد عمرها عشرين عاما فما إن خطت إلى داخل البيت الذي أخلي بسرعة من كل شيء يخص أخي الراحل –رحمه الله- حتى انتابتها نوبة من الصراخ والعويل والهياج فأمرني أبي أن أحملها حملا إلى بيت شقيقها المقيم في المنيا ودعاه لأن يحضر مع زوجته ليصطحباها إلى بيتهما لفترة حتى تهدأ أعصابها .

أما شقيقتي الصغرى فلقد ذهبت إلى امتحانها من بيت عمي .. ووفقها الله في اجتيازه رغم الآلام .. وأما أنا فقد ذهبت بعدها إلى امتحاني بعقل غائب فأحاطني أساتذتي وزملائي بعطفهم ورعايتهم ...وجاءني أحد أساتذتي المقيمين في عاصمة الإقليم وكان أحبهم إلي حاملا في يده زجاجة كوكاكولا وجلس بجانبي وأمرني أن أشربها وحدثني طويلا عن القضاء والقدر وضرورة الاستسلام لأمر الله ..

وطلب مني أن أقرأ الفاتحة على روح أخي كلما تذكرته وأن أقرأ له سورة "يس" كل صباح ...وأبلغني أن الميت يتعذب في قبره ببكاء أهله عليه ... وإن أفضل ما أقدمه له هو أن أحقق له أحلامه بنجاحي في الامتحان وبرعاية شقيقتي وأبي وأمي وكان يحدثني وهو مبتسم وغلالة من الدموع في عينيه لأنه مجروح بفقد إحدى بنتيه في حادث تصادم منذ عامين وكثيرا ما حدثنا في بعض محاضراته عن محن الحياة وضرورة احتمالها ...فشكرته من قلبي ودعوت له .. فدعا لي بالتوفيق وغادرني ... وأوصى المراقبين بحسن معاملتي وكان يجيء كل يوم طوال الامتحان ليطمئن على أحوالي حتى انتهى الامتحان ..وفوجئت بنجاحي بتقدير مقبول مع أني كنت يائسا تماما من النجاح .

ولم أفرح بنجاحي كما لم تفرح أختي بنجاحها ..فقد غابت البهجة عن بيتنا إلى الأبد وأصبح صامتا موحشا وأصبحت الحياة شديدة المرارة في فمي .. ثم تضاعفت مرارتها حين عرفت بعد أسابيع من الكارثة ما جاء بتقرير الطبيب الشرعي عنها ...فقد أكد أن المسدس الخالي كانت به طلقة محشورة منذ 20 عاما ظلت كامنة فيه طوال هذه السنوات وأنها في هذه الحالة لا تستجيب للانطلاق عند أول ضغطة على الزناد ..وإنما تنطلق إذا ضغط الإنسان عليه عدة مرات فتسخن من جديد وتنطلق !

وحين علمت تعجبت مما تفعله بنا الأقدار ..لقد سدد أخي المسدس إلي وضغط على الزناد عدة مرات وهو يداعبني وكان من المحتمل في كل مرة أن تستيقظ الطلقة من سباتها فتختارني لكن القدر اختاره هو ليضع هذه النهاية الأليمة لحياته القصير ة الباسمة ..وليخطف الفرحة والسعادة من قلوبنا إلى الأبد فلماذا اختارته ولم تخترني وما معنى هذا يا سيدي ؟

لقد تضاعف عذابي عندما علمت بهذه الحقيقة وما أكثر ما تمنيت في أعماقي لو كانت هذه الطلقة قد استجابت في المرات الأولى فأصابتني ونجا هو لكن ماذا أقول فيما أراده الله لنا .. وماذا أفعل لكي أخفف عن أبي وأمي وأختي , ولكي أستطيع احتمال الحياة التعسة !؟

وقد رفعنا كل شيء يذكرنا به من البيت ..وأصبحنا نتجنب ذكر اسمه ..ولا يجرؤ أحد على أن ينطق به ..مع أني أشعر في كثير من الأحيان أني أريد أن أتحدث عنه , لكني أحجم إشفاقا على أبي .. لقد أصبح من كان لا تمضي لحظة دون أن يتردد اسمه في البيت مقيما أم غائبا ..لا يستطيع أحد أن يذكر إسمه الآن فهل هذا عدل وماذا أفعل وأنا لا أنام سوى لحظات قلقة كل ليلة منذ خيم الظلام على عشنا القديم ؟






ولكاتب هذه الرسالة أقول :



إزاء تصاريف القدر لا يملك الإنسان أن يسأل لم .. أو لماذا ..أو كيف ..؟؟
وإنما عليه أن يقول دائما شاء الله وكما شاء فعل وأراد جل شأنه ولا راد لقضائه , فلا تسرف على نفسك في هذا الأمر , وتشاغل عنه بالاندماج في الحياة الاجتماعية من حولك , وبالصبر والصلاة والرضا بقضاء الله وقدره وهو من أركان الإيمان .


إن الأحزان يا صديقي ككل شيء في الحياة لها أطوار فتبدأ قوية ثم تعلو إلى مرحلة "الأوار "المستعر ..ثم تبدأ في الانكسار بعد حين وتخبو شيئا فشيئا ..حتى تتحول إلى جذوة دافئة بالألم الإنساني وهذه الجذوة هي التي تستقر في النهاية في أعماقنا وتترك علينا بصمتها فتصبح كالندوب أو آثار الجروح القديمة وتكمن في داخلنا إلى أن يستدعيها داع جديد من أحزان الحياة فتطل برأسها من جديد أقل حدة وأكثر احتمالا .
ولقد علمتنا التجارب الأليمة إننا نستطيع أن نتحمل حياتنا وفي أعماقنا هذه الندوب وإن من واجبنا تجاه أنفسنا ألا نضاعف خسائرنا القدرية التي لا حيلة لنا فيها بخسائر إضافية أخرى نملك لو أردنا ألا نتكلفها ..كالخسائر الصحية والنفسية والاجتماعية التي نخسرها بالاستسلام للأحزان بلا مقاومة 


وأنت يا صديقي في مرحلة الأوار المشتعل أعانك الله عليها وليس هناك وقت يحتاج فيه الإنسان لأن يتجلد أكثر من هذه المرحلة ..لهذا قال رسولنا الكريم "إنما الصبر عند الصدمة الأولى " أي ونحن نعاني من هذا اللهيب القاسي الذي يدمر النفس والروح والصحة ...فاصبر وتجلد . وحبذا لو استطعت أن تمارس خلال هذه الإجازة الصيفية عملا بدنيا مرهقا يعادل معاناتك النفسية ويخفف من أضرارها ويسلمك إلى الفراش ..لتحظى بساعات من النوم كل ليلة .. ولا بأس بعد ذلك بأن تتخطى حاجز الصمت الذي نخطئ دائما في أعقاب التجارب الأليمة فنفرضه على ذكر أعزائنا الراحلين تجنبا لتجديد الأحزان .. فالحق أن تذكرهم والحديث عنهم مع أحبائهم وأصدقائهم يخفف عنا بعض آلامنا المكتومة ..فتحدث عنه بلا حرج مع أصدقائك ومع أصدقائه واعتز بذكراه واحمل له دائما أجمل الذكريات .. وحقق له أحلامه الموءودة التي لم يمهله العمر لتحقيقها ..بتحقيق أهدافك أنت في الحياة وبرعاية أسرتك وبالحفاظ على علاقات المودة والتراحم التي تجمع أفرادها ..عسى أن يأذن الله لطائر السعادة بأن يعود إلى بيتك الحزين مرة أخرى ..ولو بعد حين 

انشر
-

هناك 6 تعليقات:

  1. (اللهم اغفر لكل من ساهم في هذه الموقع ولوالديهم وادخلهم الجنه برحمتك يارب العالمين..

    ردحذف
  2. اللهم اغفر له وارحمه واعفو عنه ديمآ ادعيله بالرحمه والمغفره ربنا يصبركو علي فراقكو يارب

    ردحذف
  3. رحم الله هذا الرجل الرائع عبدالوهاب مطاوع وادخله فسيح جناته

    ردحذف
  4. رحم الله اخوك ورزقك الله ووالديك الصبر والسلوان

    ردحذف
  5. اللهم ارحمه برحمتك الواسعه ياعزيز ياغفار ياخالق الليل والنهار وامواتنا واموات المسلمين

    ردحذف
  6. رحمة الله أخوك
    أما الأعمار فهي بيد الله وما الموت إلا اتي لكل شخص

    ردحذف

;