الأحد، 25 ديسمبر 2011

14)رســــالة (الحوار الهاديء)..أباء يندر وجودهم


كتب لك هذه الرسالة تعليقا علي رسالة الرفض القاطع التي تشكو فيها كاتبتها أن أهل من ترجو الزواج منه قد رفضوا مشروع الزواج رفضا قاطعا‏.‏ وجاء ردك عليها بدعوة الآباء لمناقشة أبنائهم فيما جنحوا إليه مهما يكن شاذا ومستقبحا‏,‏ بدلا من موقف الرفض القاطع دون مناقشة‏,‏ وأريد أن أروي لك قصة وقعت لي شخصيا‏..‏ كنت طالبا في كلية الطب بالسنة الثالثة أي حين كان مازال أمامي ثلاث سنوات دراسية متتالية ولا أملك قوت يومي‏,‏ فلقد ذهبت إلي والدي ـ رحمه الله ـ وطلبت منه أن يخطب لي سيدة متدينة تزوجت حديثا ومات زوجها في حادث مؤلم وتركها حاملا‏.‏ ولقد وضعت مولودها وراح أهلها ـ وقد كانوا جيرانا لي في المدينة التي أدرس بها ـ يلمحون لي بأنهم سيساعدوني في كل شيء وأنهم لا يطلبون مني شيئا علي الاطلاق‏.‏ وسمعني أبي ـ رحمه الله ـ في هدوء وصبر إلي أن قال هل انتهيت؟ فقلت له نعم‏.‏ فقال إن رغبتك في الزواج في هذه السن أمر طبيعي ولا أناقشك فيه ولكن دعني أقل لك قول الحكيم الذي قال لابنه وهو يعظه‏:‏ يا بني تزوج البكر ثم المطلقة‏.‏ وإياك واللفوت‏.‏ فسألته عما يقصده باللفوت فقال‏:‏ أما زواج البكر فحسناته لا ينكرها أحد وأما زواج المطلقة فلا بأس به لأنها تخشي أن يتكرر فشلها‏,‏ ولذلك فقد تكون أكثر حرصا علي نجاح زواجها الثاني حتي لو صبرت علي هناتك حرصا منها علي نجاح الزواج‏.‏ وأما اللفوت فهي المرأة التي توفي عنها زوجها وترك لها ابنا أو أبناء‏.‏ ذلك لأنها إن رأت منك خيرا قالت ولو في نفسها إن زوجي السابق كان أكرم وأسخي‏.‏ ولو رأت منك شرا ـ وهو أمر وارد قطعا ـ لقالت‏:‏ رحمك الله يا زوجي الراحل يا من لم أر منه شرا قط‏.‏ أما أولادها‏:‏ فلو أدبتهم وزجرتهم وقسوت عليهم طلبا للتربية الحسنة لقالت لماذا تقسو علي أولادي بهذا الشكل أو لو كانوا أولادك كنت ستقسو عليهم؟؟ ولو أنك تركت لهم الحبل علي الغارب لقالت‏:‏ مستنكرة‏:‏ لماذا لا تؤدبهم حتي يكونوا صالحين؟؟ أو لو كانوا أولادك كنت ستتركهم هكذا؟ ألا ترعي الله في اليتامي؟‏!‏ وهكذا فأنت مدان معها ومتهم منها علي طول الخط‏.‏ ثم سألني أبي عن رأيي فيما سمعت فقلت له إنني أشكره لأنه صبر علي وسمع مني ونصحني‏,‏ فقال رحمه الله هذا واجبنا‏,‏ أن نربي وأن نعلم وأن نصاحب بالمعروف فإذا شب أولادنا سمعنا منهم ووعينا ونصحنا‏,‏ ثم يكون الأمر بعد ذلك لله‏.‏ رحم الله أبي وطيب ثراه وجعل الجنة مثواه‏.‏ ولقد رأيت بعيني الكثير من القصص الشبيهة بقصتي تلك تحدث مع زملائي وأصدقائي وعالجها الآباء بالإهمال أو الترك أوالمقاطعة أو الازدراء ورفض الموضوع رفضا قاطعا‏.‏ فما كان من الأبناء إلا أن ركبوا رءوسهم وتزوجوا بمن لا يناسبهم اجتماعيا وثقافيا‏,‏ فجاء الأبناء مشوهين نفسيا بين أقارب الوالد الذين يحتقرون أمهم وأهلها ويعامولونها وأولادها معاملة الخدم وبين أقارب الأم الذين يحطون من قدر أهل الأب ويسيئون إليهم‏,‏ ولذلك فإنني أضم صوتي الضعيف إلي صوتك في مناداة الآباء ومناشدتهم ضرورة احتواء مشاعر أبنائهم والحدب عليهم والرفق بهم وتبصيرهم بعواقب الأمور‏,‏ في هدوء وحكمة واحترام‏.‏ كما أناشد الأبناء أن يستمعوا جيدا لآبائهم وأمهاتهم وألا يهملوا نصائحهم ووجهات نظرهم وأقول للسيدات اللاتي لهن مثل ظروف صاحبة الرسالة أن يبحثن عمن يناسبهن من حيث الظروف والسن والأحوال الاجتماعية‏.‏ وأسأل الله التوفيق والسعادة للجميع‏.‏

‏ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
بغض النظر عن خطأ التعميم في الحكم علي كل سيدة شابة شاءت لها أقدارها الحزينة أن يرحل عنها زوجها مبكرا بعد إنجاب طفل أو طفلين ودمغها بأنها المقصودة بتعبير اللفوت التي تقارن دائما بين زوجها الراحل وزوجها الحالي‏..‏ ولا تنصفه من نفسها مهما يفعل‏,‏ فإن ما يستحق الاحترام حقا في هذه القصة هو اعتماد أبيك الراحل يرحمه الله لأسلوب الحوار العقلاني الهاديء معك في مناقشة اختيارك للزواج من أرملة شابة ذات طفل‏,‏ وأنت مازلت طالبا في السنة الثالثة بكلية الطب لم تتخرج ولم تعمل ولم تملك بعد قوت يومك‏,‏ فلقد ناقشه معك مناقشة هادئة ولم يواجهك بالرفض الصاخب من الوهلة الأولي والاستنكار أو السخرية من اختيارك كما يفعل بعض الأهل مما يستفز بالفعل إرادة التحدي لدي بعض الأبناء ويدفعهم للتمسك باختياراتهم الخاطئة‏,‏ إما بدافع الرغبة في إثبات النضج النفسي والقدرة علي حسن الاختيار أو تحت تأثير الاعتقاد الخاطيء بتعنت الآباء والأمهات معهم بلا سبب مقبول من وجهة نظرهم وفي ظلال أجواء التحدي ومغالبة الأقدار التي تترصد المحبين فتدفعهم كرد فعل عكسي لتمسك كل منهما بالآخر تتواري العيوب البارزة والفوارق العائلية والاجتماعية والثقافية‏,‏ ثم لا تلبث أن تطل برؤوسها لتفسد الحياة بعد تسليم الأهل بإرادة الأبناء وإتمام الزواج وانقشاع الضباب العاطفي عن العقول بعد حين‏..‏
ولقد كان والدك حكيما بالفعل حين سلم لك من البداية حتي ولو لم يكن مقتنعا بذلك في قرارة نفسه بمشروعية رغبتك في الزواج من هذه الأرملة الشابة من حيث المبدأ‏..‏ ثم ناقش بعد ذلك هذا الاختيار وأقنعك بعدم ملاءمته لك‏.‏ إذ انه قد سلبك بهذا التسليم الحكيم أهم مبررات التشبث بهذا الاختيار التي لا يعيها بعض الأبناء‏..‏ وهو الرفض الصارم من حيث المبدأ بلا مناقشة ولا حوار‏,‏ فوجدت الأمر قابلا للنظر فيه ودراسة احتمالاته واقتنعت داخليا بعدم ملاءمته لك فانصرفت عنه بلا قهر ولا مرارة‏.‏ وهكذا يفعل أصحاب القلوب الحكيمة من الآباء والأمهات‏.‏
انشر
-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;