بالرغم من انني قارئة مستديمة لبريد الجمعة إلا أنني ترددت طويلا في الكتابة اليك, حتي قرأت رسالة الجوانب المضيئة فشجعتني علي أن اروي لك قصتي مع الأيام, فلقد روي لك فيها كاتبها الشاب كيف فقد أمه وهو طفل صغير فاحتضنته جدته واصبحت اما بديلة لها.. ثم لقيت وجه ربها وتكررت تجربة اليتم الأليمة في حياته
وأنتقلت حضانته إلي زوجة أبيه, فكانت لحسن الحظ ممن غرس الله سبحانه وتعالي الرحمة بالايتام في قلوبهن, فرحمته وعطفت عليه واحسنت رعايته, فاذا به يفقدها في الأخري ويستشعر مرارة اليتم من جديد, وكان ان تركت عليه تجربة الأيام بصماتها في مرض بالكبد, وضعف في السمع الخ, ولقد رددت عليه مهونا وداعيا اياه إلي التمسك بالإيمان بالله والرضا بقضائه وقدره, والأمل في الغد, وأختتمت كلتمك له, بان لدي الإنسان ميلا غريزيا للرثاء للنفس, وان هذا الميل قد يكون له مايبرره في بعض الأحيان, وقد لايكون هناك مايدعو اليه, لكنك تري ان رثاء هذا الشاب لنفسه عن حق وله مايبرره واريد أن اروي لك قصتي لتحكم علي هذا الميل لدي وتري اذا ماكنت محقة فيه أم مغاليه
في احساسي به في بعض الاحيان فأنا فتاة في الثالثة والعشرين من عمري وحين كنت طفلة في التاسعة من عمري ذهبت إلي الشاطيء مع ابي وأمي وشقيقي في اجازة وخلال لهوي مع اخي فوق الرمال لاحظت أمي شيئا غريبا استوقفها في ظهري.. واسرت لأبي بملاحظتها وشكوكها فاتهمها بالوسوسة والخوف المبالغ فيه علي اطفالها لكن أمي لم يهنأ لها بال حتي قامت بعرضي علي أحد الأطباء فطلب اجراء العديد من التحاليل والأشعات, وفي النهاية قال لوالدتي انها أم ممتازة لأنها قد لاحظت شيئا قد تفوت ملاحظته علي الكثيرين, وصارحها بانني مصابة بعيب خلقي في العمود الفقري عبارة عن اعوجاج في بعض فقراته من الأسفل إلي الأعلي وانها حالة نادرة لكنها تتطلب اجراء جراحة عاجلة لعلاجها والا فانها سوف تتفاقم ويزداد الاعوجاج وينتهي بالتفاف العمود الفقري حول الرئتين والوفاة.وانهارت أمي حين سمعت ذلك,وارادت ان تتأكد من صحته فعرضتني علي اربعة اطباء آخرين اكدوا لها صحة هذاالتشخيص, وحذروها من التأخر في اجراء الجراحة, وانتهي الأمرباختيار احدالجراحين لاجراء العملية ودخلت المستشفي قبل موعدها باسبوع لاجراء المزيد من الفحوصوالتحاليل, وذات يوم جاءت إلي الممرضة التي كانت ترعاني في المستشفي ـ واصطحتبتنيمعها وفي الطريق عبر ممرات المستشفي نظرت إلي باشفاق ثم سألتني: هل تحفظينالفاتحة؟ وإجبتها بالايجاب فطلبت مني ان أقرأها واكرر قراءتها طوال سيرنا فيالممرات, وفي احدي الغرف طلبت مني الممرضة خلع ملابسي, وارتداء قميص ابيض ووضعبونية من البلاستيك فوق رأسي وفعلت ماطلبت ثم قادتني إلي غرفة اخري يسودها اللونالأخضر في الحوائط والاثاث, ويقف بها رجال يرتدون معاطف خضراء اللون, ابتسمواجميعا في وجهي ثم اقترب مني احدهم وطلب مني ان يري يدي فمددتها له فوخزني بابرة فيكفي الصغيرة, ولم تمض دقائق حتي كنت قد غبت عن الوعي لفترة لاأدريها, وأفقت منغيبتي فوجدت ابي وأمي حولي وهما يبتهلان إلي الله حمدا وشكرا علي سلامتي, وعرفتانه قد اجريت لي الجراحة المطلوبة ووجدتني لا اقوي علي تحريك قدمي واستمر الحالهكذا شهرا كاملا وتبين انني قدا اصبت بشلل مؤقت وغادرت المستشفي وأخي يدفعني امامهعلي الكرسي المتحرك, وأمضيت أيامي حبيسه البيت اجلس في الشرفة أرقب الأطفال وهميلهون ويجرون في الشارع ولا أعرف سببا لعجزي عن أن أفعل مثلهم, وقبل ان يتمكناليأس والاحباط مني جاء ابي وأمي لي لطبيب متخصص في العلاج الطبيعي, فراح يعلمنيعلي مدي ثلاثة شهور بصبر واخلاص المشي كما يعلم الانسان طفلا يبدأ عامه الثاني,إلي أن استطعت المشي بالفعل وسعدت بذلك كثيرا لكن ذلك لم يكن نهاية المعاناة وانمابدأت رحلة أخري من العذاب, فلقد قام الجراح بوضع شرائح معدنية ومسامير لسندالعمود الفقري بعد الجراحة, ولم يتقبل جسدي هذه الأجسام الغريبة فكونت خلاياهصديدا الجرح وداخله, وتطلب الأمر اجراء8 عمليات جراحية أخري لي علي مديحوالي5 سنوات, كان آخرها لتكسير عظام الحوض وأخذ أجزاء منها لسند العمود الفقريحتي لايقوم الجسم بافراز صديد جديد حوله, وشاءت الأقدار لي في آخر هذه العملياتان تقع زجاجة صبغة اليود من يد الطبيب المساعد, فيسقط السائل الحارق علي وجهيورقبتي ويصيبها بالحروق, وعانيت بعد ذلك آلاما قاسية في الظهر والحوض والوجهوالرقبة, وتوفي طبيبي المعالج إلي رحمة الله وأفتقدنا اخلاصه ودرايته بحالتي,ومضي بعض الوقت حتي تعرف خالي بالمصادفة علي طبيب شاب يدرس نفس هذه الحالة, فتوليعلاجي وأنقذ حياتي حين أخرج من جسمي13 غرزة بخيوط الجراحة كان من المفترض انتتحلل داخل الجسم, لكنها لم تحلل واستمرت رحلة العذاب هذه منذ اللحظة التي شكتفيها أمي في سلامة ظهري إلي أن أذن الله بالشفاء وانتهاء المعاناة خمس سنوات كاملةاستغرقت أجمل الأعوام من سن التاسعة إلي الرابعة عشرة, وحرمت طوالها من النومالطبيعي بسبب ما عانيته من آلام, فإذا سكتت الآلام بعض الشيء أطار النوم من عينيبكاء أمي وابتهال أبي إلي الله داعيا لي بالشفاء, كما لم يغب عن مخيلتي ابدا ولنيغيب إلي النهاية وجه أخي وهو يضرب رأسه في الحائط تألما وضيقا حين رأي وجهي محترقابسبب صبغة اليود.
وطوال هذه الأعوام الخمسة لم أتخلف عن مواصلة الدراسة,وبعد انتهائها بسلام اجتزت الثانوية العامة والتحقت بكلية نظرية مرموقة ووفقني اللهفي النجاح والحصول علي شهادتها بتقدير جيد جدا, وكان ذلك من فضل الله وبفضل أبيوأمي اللذين لم يدخرا وسعا في رعايتي وعلاجي في أفضل المستشفيات وعرضي علي أكبرالأطباء, فإذا كنت قد اسيت لشيء في كل ما لقيت من عناء, فعلي أنني لم استمتعبالسنوات الجميلة في حياة كل ابنه ـ أو ابن, فلم استمتع ببراءة الطفولة ولا شقاوةسنوات المراهقة, ودخلت مرحلة الشباب والدراسة الجامعية وأنا اخشي العلاقاتالاجتماعية حتي لا أضع نفسي موضع تساؤل قد يحرجني أو يجرحني, كما لم أفكر فيالارتباط بأي شاب حتي لا أثير موضوع الجراحات مع أحد, إلي أن ساق القدر لي وأنافي السنة النهائية بالجامعة زميلا لي في نفس القسم عبر لي عن إعجابه بي وانبهارهبهدوئي ورقتي وصارحني برغبته في الارتباط الرسمي بي, ففتح بذلك باب الأملأمامي, ودعم ثقتي به وشجعني ذلك علي أن أروي له قصتي مع الجراحات التي أجريتهاواستقبل هو كل ذلك بهدوء تام, لكن والدته قابلت رغبته في الارتباط بي بإعلانالحداد العام وعارضت اختياره لي وإصراره علي الارتباط بي بشدة متناهية واتهمته بأنهيحب فتاة قد تكون عاجزة أو معوقة ولم يكن ذلك صحيحا لأن هذه الجراحات أجريت لي منذعشر سنوات, ولم يكن من الرحمة أو العدل أن تعاقبني علي ما لا ذنب لي فيه, كماأهانتني والدته سامحها الله وأهانت أسرتي بدلا من أن تقدر لأبي وأمي ما بذلاه منجهد في رعايتي وعلاجي وإسعادي وصورت الموقف علي انني قد نصبت لابنها فخا وقع فيهباستدراري لعطفه لكي يرتبط بي, وانتهي الأمر بأن عجز هذا الشاب عن تحمل ضغوط أمهعليه, فاعتذر لي عما سببه من آلام وغادر البلاد كلها للعمل في الخارج.
فإذاكنت قد وجدت في نفسي القدرة علي أن أروي لك قصتي هذه فلكي اقدم لأبي وأمي اطال اللهعمريهما بعض ما يستحقانه من شكر وعرفان لما قدماه لي من عناية واهتمام وحنان لوظللت بقية العمر اشكرهما علي ما قدماه لي فلن افيهما بعض حقهما علي, ولا أملك إلاأن ادعو الله سبحانه وتعالي ان يحفظهما من كل سوء ويهبهما الصحة وطول العمر,وكذلك لكي اقول لك ولقرائك ان الايمان بالله وقوة الارادة, كانا السر الحقيقيفيما أنا فيه الآن من نعمة الصحة والتوفيق في الدراسة, والحياة السعيدة بين أبيوأمي وأخي حفظهم الله لي, كما أنني لست ساخطة علي اقداري, مادامت ارادة اللهسبحانه وتعالي هي التي اختارتني لهذا الاختبار الصعب, وها أنا الآن في أتم صحةوعافية وقد حققت الكثير من النجاح في حياتي العلمية, ومازلت اتشوق للمزيد فإذاكنت اشعر ببعض الآسي علي السنوات الجميلة التي ضاعت في المعاناة والآلام فأني ارجعالي نفسي من جديد وأري الجوانب المضيئة حولي من حب أبي وأمي وأخي لي وتوفيقيالدراسي..وأحمد الله علي كل شيء.. وأرجو رحمته وفضله والسلام عليكم ورحمةالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
إذا كنت تأسين علي سنوات العمر الجميلة التي تبددت في المعاناة والآلام, فلسوف تهديك الأقدار الرحيمة ما هو أجمل منها في قادم الايام بإذن الله, ولسوف تنهال عليك جوائز السماء فتمسح علي كل الاحزان وتعوضك عن كل ما قاسيت من آلام, ولا عجب في ذلك يا آنستي, فأنت تملكين كل مؤهلات السعادة والتوفيق في الحياة إن شاء الله ـومن أهمها هذه النفس الرضية الراضية باقدارها وبكل ما تحمله اليه امواج الحياة, وهذا القلب العطوف الذي يتسع لحب الابوين والأخ الوحيد ويذكر لهم كل ما قدموه له.. ويتفاءل بالحياة بالرغم مما شهدته رحلة العمر من بعض الاحزان.كما انك يا آنستي قد دفعت ضريبة الألم مبكرا واستوفيت حتيالآن نصيبك من المعاناة, وكل ذلك لابد له ان يرشحك لنيل نصيبك العادل من السعادةوالهناء, ولم يبق لك إلا انتظار الأقدار السعيدة والتهيؤ لاستقبالها قريبا بإذنالله., ولسوف تكون سعادتك حقيقية كما كانت آلامك من قبل حقيقية.
ولسوف يكوناحتفاؤك بها واستشعارك لكل لمحة من لمحاتها صادقا ومضاعفا بإذن الله, لأننا نعرفالأشياء باضدادها وندرك قيمة الصحة حين نتمن بالمرض, وقدر الأهل حين يغيبون عنحياتنا, ويزداد إحساسنا بقيمة السعادة حين نكون قد تجرعنا من قبل كؤوس الشقاء,فأما أهم ما يرشحك لنيل سعادتك المستحقة, من بعد إيمانك بربك ورضاك باقدارك,فهو هذا الإحساس الغامر بالعرفان لأبويك والإدراك العميق لقيمة ما قدماه إليك من حبوعطف ورعاية واهتمام, فهذا البر بالأبوين والوفاء لهما من أهم مؤهلات السعادةوالتوفيق في الحياة, ونادرا ما نعم إنسان بهما في حياته إذا كان قلبه قد خلا منالبر بأبويه والعطف عليهما, فإن صادف أحد الجاحدين لآبائهم وأمهاتهم بعض مظاهرالتوفيق في الحياة, فإنما لكي يملي الله سبحانه وتعالي له, قبل أن يأخذه ذاتيوم أخذ عزيز مقتدر, أو قبل أن يذيقه مرارة ما أذاقه هو لأبويه من مرارة الجحودعلي أيدي أبنائه من الجاحدين, فيندم حين لا ينفع الندم, ويرجو لو كان العمر قدطال بأبويه ليصلح ما أفسده بجحوده لهم.
ولقد ذكرتني كلماتك الطيبة عن أبويك,وإحساسك النبيل بأنك لو قضيت العمر تلهجين بشكرهما علي ما قدماه إليك لما وفيتهمابعض حقهما عليك, بما قيل عن أوفي الطيور بأبويه وهو طائر الهدهد الجميل, فلقدقيل عنه انه اذا شاخ ابواه حمل اليهما الطعام وراح يزقهما ـ أي يضع الطعام بمنقارهفي منقاريهما ـ كما كانا يفعلان معه صغيرا, وكما يفعل هو مع صغاره, وزعمت بعضالأساطير ان التاج الذي يحمله علي رأسه هو رمز لبره بأبويه ووفائه لهما, فقد قالتالأساطير ان أمه قد ماتت في الزمن القديم وحملها علي رأسه حتي واراها التراب فكافأهربه علي بره بأبويه بأن منحه تاجا من الريش يزدان به ويكون رمزالوفائه.
فهنيئا لك يا ابنتي بتاج الوفاء الذي تحملينه الآن علي رأسك وهنيئا لكبما سوف يرشحك له من سعادة وتوفيق في الحياة بإذن الله. فإذا كانت تجربة الارتباطالأولي في حياتك قد خلفت وراءها بعض الجراح, فلعل الأقدار تدخرك لمن هو أحق بكوأقدر علي إسعادك من الجميع, وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم الله وعسي أن تحبواشيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون صدق الله العظيم.. ولسوف يأتيك ما هوفي علمه وحده سبحانه حين يأذن بذلك.. إن شاءالله.
في احساسي به في بعض الاحيان فأنا فتاة في الثالثة والعشرين من عمري وحين كنت طفلة في التاسعة من عمري ذهبت إلي الشاطيء مع ابي وأمي وشقيقي في اجازة وخلال لهوي مع اخي فوق الرمال لاحظت أمي شيئا غريبا استوقفها في ظهري.. واسرت لأبي بملاحظتها وشكوكها فاتهمها بالوسوسة والخوف المبالغ فيه علي اطفالها لكن أمي لم يهنأ لها بال حتي قامت بعرضي علي أحد الأطباء فطلب اجراء العديد من التحاليل والأشعات, وفي النهاية قال لوالدتي انها أم ممتازة لأنها قد لاحظت شيئا قد تفوت ملاحظته علي الكثيرين, وصارحها بانني مصابة بعيب خلقي في العمود الفقري عبارة عن اعوجاج في بعض فقراته من الأسفل إلي الأعلي وانها حالة نادرة لكنها تتطلب اجراء جراحة عاجلة لعلاجها والا فانها سوف تتفاقم ويزداد الاعوجاج وينتهي بالتفاف العمود الفقري حول الرئتين والوفاة.وانهارت أمي حين سمعت ذلك,وارادت ان تتأكد من صحته فعرضتني علي اربعة اطباء آخرين اكدوا لها صحة هذاالتشخيص, وحذروها من التأخر في اجراء الجراحة, وانتهي الأمرباختيار احدالجراحين لاجراء العملية ودخلت المستشفي قبل موعدها باسبوع لاجراء المزيد من الفحوصوالتحاليل, وذات يوم جاءت إلي الممرضة التي كانت ترعاني في المستشفي ـ واصطحتبتنيمعها وفي الطريق عبر ممرات المستشفي نظرت إلي باشفاق ثم سألتني: هل تحفظينالفاتحة؟ وإجبتها بالايجاب فطلبت مني ان أقرأها واكرر قراءتها طوال سيرنا فيالممرات, وفي احدي الغرف طلبت مني الممرضة خلع ملابسي, وارتداء قميص ابيض ووضعبونية من البلاستيك فوق رأسي وفعلت ماطلبت ثم قادتني إلي غرفة اخري يسودها اللونالأخضر في الحوائط والاثاث, ويقف بها رجال يرتدون معاطف خضراء اللون, ابتسمواجميعا في وجهي ثم اقترب مني احدهم وطلب مني ان يري يدي فمددتها له فوخزني بابرة فيكفي الصغيرة, ولم تمض دقائق حتي كنت قد غبت عن الوعي لفترة لاأدريها, وأفقت منغيبتي فوجدت ابي وأمي حولي وهما يبتهلان إلي الله حمدا وشكرا علي سلامتي, وعرفتانه قد اجريت لي الجراحة المطلوبة ووجدتني لا اقوي علي تحريك قدمي واستمر الحالهكذا شهرا كاملا وتبين انني قدا اصبت بشلل مؤقت وغادرت المستشفي وأخي يدفعني امامهعلي الكرسي المتحرك, وأمضيت أيامي حبيسه البيت اجلس في الشرفة أرقب الأطفال وهميلهون ويجرون في الشارع ولا أعرف سببا لعجزي عن أن أفعل مثلهم, وقبل ان يتمكناليأس والاحباط مني جاء ابي وأمي لي لطبيب متخصص في العلاج الطبيعي, فراح يعلمنيعلي مدي ثلاثة شهور بصبر واخلاص المشي كما يعلم الانسان طفلا يبدأ عامه الثاني,إلي أن استطعت المشي بالفعل وسعدت بذلك كثيرا لكن ذلك لم يكن نهاية المعاناة وانمابدأت رحلة أخري من العذاب, فلقد قام الجراح بوضع شرائح معدنية ومسامير لسندالعمود الفقري بعد الجراحة, ولم يتقبل جسدي هذه الأجسام الغريبة فكونت خلاياهصديدا الجرح وداخله, وتطلب الأمر اجراء8 عمليات جراحية أخري لي علي مديحوالي5 سنوات, كان آخرها لتكسير عظام الحوض وأخذ أجزاء منها لسند العمود الفقريحتي لايقوم الجسم بافراز صديد جديد حوله, وشاءت الأقدار لي في آخر هذه العملياتان تقع زجاجة صبغة اليود من يد الطبيب المساعد, فيسقط السائل الحارق علي وجهيورقبتي ويصيبها بالحروق, وعانيت بعد ذلك آلاما قاسية في الظهر والحوض والوجهوالرقبة, وتوفي طبيبي المعالج إلي رحمة الله وأفتقدنا اخلاصه ودرايته بحالتي,ومضي بعض الوقت حتي تعرف خالي بالمصادفة علي طبيب شاب يدرس نفس هذه الحالة, فتوليعلاجي وأنقذ حياتي حين أخرج من جسمي13 غرزة بخيوط الجراحة كان من المفترض انتتحلل داخل الجسم, لكنها لم تحلل واستمرت رحلة العذاب هذه منذ اللحظة التي شكتفيها أمي في سلامة ظهري إلي أن أذن الله بالشفاء وانتهاء المعاناة خمس سنوات كاملةاستغرقت أجمل الأعوام من سن التاسعة إلي الرابعة عشرة, وحرمت طوالها من النومالطبيعي بسبب ما عانيته من آلام, فإذا سكتت الآلام بعض الشيء أطار النوم من عينيبكاء أمي وابتهال أبي إلي الله داعيا لي بالشفاء, كما لم يغب عن مخيلتي ابدا ولنيغيب إلي النهاية وجه أخي وهو يضرب رأسه في الحائط تألما وضيقا حين رأي وجهي محترقابسبب صبغة اليود.
وطوال هذه الأعوام الخمسة لم أتخلف عن مواصلة الدراسة,وبعد انتهائها بسلام اجتزت الثانوية العامة والتحقت بكلية نظرية مرموقة ووفقني اللهفي النجاح والحصول علي شهادتها بتقدير جيد جدا, وكان ذلك من فضل الله وبفضل أبيوأمي اللذين لم يدخرا وسعا في رعايتي وعلاجي في أفضل المستشفيات وعرضي علي أكبرالأطباء, فإذا كنت قد اسيت لشيء في كل ما لقيت من عناء, فعلي أنني لم استمتعبالسنوات الجميلة في حياة كل ابنه ـ أو ابن, فلم استمتع ببراءة الطفولة ولا شقاوةسنوات المراهقة, ودخلت مرحلة الشباب والدراسة الجامعية وأنا اخشي العلاقاتالاجتماعية حتي لا أضع نفسي موضع تساؤل قد يحرجني أو يجرحني, كما لم أفكر فيالارتباط بأي شاب حتي لا أثير موضوع الجراحات مع أحد, إلي أن ساق القدر لي وأنافي السنة النهائية بالجامعة زميلا لي في نفس القسم عبر لي عن إعجابه بي وانبهارهبهدوئي ورقتي وصارحني برغبته في الارتباط الرسمي بي, ففتح بذلك باب الأملأمامي, ودعم ثقتي به وشجعني ذلك علي أن أروي له قصتي مع الجراحات التي أجريتهاواستقبل هو كل ذلك بهدوء تام, لكن والدته قابلت رغبته في الارتباط بي بإعلانالحداد العام وعارضت اختياره لي وإصراره علي الارتباط بي بشدة متناهية واتهمته بأنهيحب فتاة قد تكون عاجزة أو معوقة ولم يكن ذلك صحيحا لأن هذه الجراحات أجريت لي منذعشر سنوات, ولم يكن من الرحمة أو العدل أن تعاقبني علي ما لا ذنب لي فيه, كماأهانتني والدته سامحها الله وأهانت أسرتي بدلا من أن تقدر لأبي وأمي ما بذلاه منجهد في رعايتي وعلاجي وإسعادي وصورت الموقف علي انني قد نصبت لابنها فخا وقع فيهباستدراري لعطفه لكي يرتبط بي, وانتهي الأمر بأن عجز هذا الشاب عن تحمل ضغوط أمهعليه, فاعتذر لي عما سببه من آلام وغادر البلاد كلها للعمل في الخارج.
فإذاكنت قد وجدت في نفسي القدرة علي أن أروي لك قصتي هذه فلكي اقدم لأبي وأمي اطال اللهعمريهما بعض ما يستحقانه من شكر وعرفان لما قدماه لي من عناية واهتمام وحنان لوظللت بقية العمر اشكرهما علي ما قدماه لي فلن افيهما بعض حقهما علي, ولا أملك إلاأن ادعو الله سبحانه وتعالي ان يحفظهما من كل سوء ويهبهما الصحة وطول العمر,وكذلك لكي اقول لك ولقرائك ان الايمان بالله وقوة الارادة, كانا السر الحقيقيفيما أنا فيه الآن من نعمة الصحة والتوفيق في الدراسة, والحياة السعيدة بين أبيوأمي وأخي حفظهم الله لي, كما أنني لست ساخطة علي اقداري, مادامت ارادة اللهسبحانه وتعالي هي التي اختارتني لهذا الاختبار الصعب, وها أنا الآن في أتم صحةوعافية وقد حققت الكثير من النجاح في حياتي العلمية, ومازلت اتشوق للمزيد فإذاكنت اشعر ببعض الآسي علي السنوات الجميلة التي ضاعت في المعاناة والآلام فأني ارجعالي نفسي من جديد وأري الجوانب المضيئة حولي من حب أبي وأمي وأخي لي وتوفيقيالدراسي..وأحمد الله علي كل شيء.. وأرجو رحمته وفضله والسلام عليكم ورحمةالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
إذا كنت تأسين علي سنوات العمر الجميلة التي تبددت في المعاناة والآلام, فلسوف تهديك الأقدار الرحيمة ما هو أجمل منها في قادم الايام بإذن الله, ولسوف تنهال عليك جوائز السماء فتمسح علي كل الاحزان وتعوضك عن كل ما قاسيت من آلام, ولا عجب في ذلك يا آنستي, فأنت تملكين كل مؤهلات السعادة والتوفيق في الحياة إن شاء الله ـومن أهمها هذه النفس الرضية الراضية باقدارها وبكل ما تحمله اليه امواج الحياة, وهذا القلب العطوف الذي يتسع لحب الابوين والأخ الوحيد ويذكر لهم كل ما قدموه له.. ويتفاءل بالحياة بالرغم مما شهدته رحلة العمر من بعض الاحزان.كما انك يا آنستي قد دفعت ضريبة الألم مبكرا واستوفيت حتيالآن نصيبك من المعاناة, وكل ذلك لابد له ان يرشحك لنيل نصيبك العادل من السعادةوالهناء, ولم يبق لك إلا انتظار الأقدار السعيدة والتهيؤ لاستقبالها قريبا بإذنالله., ولسوف تكون سعادتك حقيقية كما كانت آلامك من قبل حقيقية.
ولسوف يكوناحتفاؤك بها واستشعارك لكل لمحة من لمحاتها صادقا ومضاعفا بإذن الله, لأننا نعرفالأشياء باضدادها وندرك قيمة الصحة حين نتمن بالمرض, وقدر الأهل حين يغيبون عنحياتنا, ويزداد إحساسنا بقيمة السعادة حين نكون قد تجرعنا من قبل كؤوس الشقاء,فأما أهم ما يرشحك لنيل سعادتك المستحقة, من بعد إيمانك بربك ورضاك باقدارك,فهو هذا الإحساس الغامر بالعرفان لأبويك والإدراك العميق لقيمة ما قدماه إليك من حبوعطف ورعاية واهتمام, فهذا البر بالأبوين والوفاء لهما من أهم مؤهلات السعادةوالتوفيق في الحياة, ونادرا ما نعم إنسان بهما في حياته إذا كان قلبه قد خلا منالبر بأبويه والعطف عليهما, فإن صادف أحد الجاحدين لآبائهم وأمهاتهم بعض مظاهرالتوفيق في الحياة, فإنما لكي يملي الله سبحانه وتعالي له, قبل أن يأخذه ذاتيوم أخذ عزيز مقتدر, أو قبل أن يذيقه مرارة ما أذاقه هو لأبويه من مرارة الجحودعلي أيدي أبنائه من الجاحدين, فيندم حين لا ينفع الندم, ويرجو لو كان العمر قدطال بأبويه ليصلح ما أفسده بجحوده لهم.
ولقد ذكرتني كلماتك الطيبة عن أبويك,وإحساسك النبيل بأنك لو قضيت العمر تلهجين بشكرهما علي ما قدماه إليك لما وفيتهمابعض حقهما عليك, بما قيل عن أوفي الطيور بأبويه وهو طائر الهدهد الجميل, فلقدقيل عنه انه اذا شاخ ابواه حمل اليهما الطعام وراح يزقهما ـ أي يضع الطعام بمنقارهفي منقاريهما ـ كما كانا يفعلان معه صغيرا, وكما يفعل هو مع صغاره, وزعمت بعضالأساطير ان التاج الذي يحمله علي رأسه هو رمز لبره بأبويه ووفائه لهما, فقد قالتالأساطير ان أمه قد ماتت في الزمن القديم وحملها علي رأسه حتي واراها التراب فكافأهربه علي بره بأبويه بأن منحه تاجا من الريش يزدان به ويكون رمزالوفائه.
فهنيئا لك يا ابنتي بتاج الوفاء الذي تحملينه الآن علي رأسك وهنيئا لكبما سوف يرشحك له من سعادة وتوفيق في الحياة بإذن الله. فإذا كانت تجربة الارتباطالأولي في حياتك قد خلفت وراءها بعض الجراح, فلعل الأقدار تدخرك لمن هو أحق بكوأقدر علي إسعادك من الجميع, وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم الله وعسي أن تحبواشيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون صدق الله العظيم.. ولسوف يأتيك ما هوفي علمه وحده سبحانه حين يأذن بذلك.. إن شاءالله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق