الأحد، 15 أبريل 2012

رسالة (قسوة الكلمات‏)..ألست إنسانا كغيري من البشر


أكتب إليك بعد تردد دام خمس سنوات‏,‏ فأنا شاب في الخامسة والثلاثين من عمري‏..‏ توفي أبي رحمه الله منذ حوالي عشرين عاما‏,‏ وتولت والدتي إدارة الأسرة المكونة من ثمانية أفراد من بعده‏.‏ وقد ترك لنا والدنا مايكفي لحياة كريمة وتوليت أنا إدارة عمله التجاري وسارت بنا سفينة الحياة لا يعكرها إلا المنغصات العادية التي تعرفها حياة الجميع‏,‏ وبعد خمس سنوات من رحيل أبي مرضت أمي بمرض عضال‏,‏ ورضيت بما أرادته لها الأقدار وتحملت آلام المرض حتي لقد كنت أصحو في جوف الليل فأجدها جالسة في فراشها من شدة الألم وعجزها عن الاستلقاء فإذا سألتها مشفقا عما بها أنكرت ماتعانيه من ألم وزعمت لي أنها تنتظر صلاة الفجر‏..‏
ولقد كنت المسئول عن دوائها ونظامها الغذائي وترددها مرتين في الأسبوع علي المركز المتخصص للعلاج‏..‏ وكانت تكفيني منها الابتسامة الحانية والدعاء الحار لي‏,‏ وأنتظمت حياتنا علي هذا النحو إلي أن ظهر وحش جديد في حياتي‏,‏ فقد لاحظت في أحد الأيام وجود ورم أسفل رقبتي‏,‏ فلم أنزعج له وإنما انتظرت زواله بالعلاجات العادية‏,‏ فلم يختف وإنما كبر حجمه فزرت أحد الأطباء وبدأنا رحلة الفحوص وأكدت وجود ورم بالغدد الليمفاوية وأجريت لي جراحة لاستئصال الطحال‏.‏ ومن الله سبحانه وتعالي علي بالصبر والاستسلام لقضائه فلم أجزع ولم أشعر بالخوف والحمد لله‏..‏ وجاءت بعد ذلك مرحلة العلاج الإشعاعي والكيماوي لمدة ثلاثة أشهر‏,‏ فكان أكثر ماآلمني منها هو معاناة أمي وأخوتي معي حتي تمنيت الشفاء من أجل والدتي فقط‏,..‏ وأكملت العلاج واستمرت في المتابعة مع الطبيب المعالج مرة كل شهر‏,‏ إلي أن كشفت إحدي هذه المتابعات الشهرية عن ارتداد المرض‏.‏ ولم يترفق بي الطبيب المعالج وهو يبلغني الخبر‏..‏ ولم يفتح لي بابا للأمل بالنسبة للمستقبل‏..‏ حتي غصت نفسي بالألم ونهضت من أمامه محتسبا وأنا أقول‏:‏ والله المستعان علي ماتصفون‏.‏

وقررت ترك هذا الطبيب سامحه الله بسبب قسوة كلماته وعدم ترفقه بي وذهبت إلي طبيب آخر راح يهديء من روعي‏,‏ وبدأنا خطوات العلاج وقررت مواصلة حياتي إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا‏,‏ ونظمت حياتي علي هذا الأساس‏,‏ فكنت أذهب إلي المستشفي لأخذ جرعة العلاج الكيماوي وأرجع منه إلي عملي بالمحل التجاري مباشرة لكيلا أزعج والدتي وأخوتي‏,‏ ومضت أيام العلاج بخيرها وشرها‏..‏ واشتد المرض بأمي وهي قرة عيني حتي انتقلت إلي رحمة ربها‏,‏ واعتصرني الحزن والألم لفراقها وضاقت الدنيا في وجهي‏,‏ وبعدها بشهور قليلة لحقت بها أختي الكبري وهي أقرب أخوتي إلي قلبي‏..‏ فتدهورت حالتي النفسية إلي الحضيض‏,‏ وتوقفت عن تلقي العلاج الكيماوي‏,‏ فاتصل بي الطبيب الإنسان أكرمه الله وطلب مني مقابلته لأمر مهم‏,‏ وذهبت إليه فجلس معي وقتا طويلا ولم يدعني أنصرف من عنده إلا علي وعد مني بالعودة لاستكمال العلاج‏,‏ وقام أخوتي الأحباء جزاهم الله عني خير الجزاء بدور كبير في حثي علي العودة‏,‏ ورجعت للعلاج من جديد إلي أن بشرني الطبيب ذات يوم بالشفاء‏,‏ ومضت علي ذلك الآن تسعة أشهر‏,‏ شعرت خلالها بتحسن كبير في صحتي العامة‏,‏ وزالت الأعراض المصاحبة للعلاج من فقد للوزن وسقوط الشعر وماإلي ذلك والآن فإن أخوتي وأصدقائي وأقاربي يلحون علي في البحث عن شريكة لحياتي‏,‏ لكني خائف من تعريض حياة إنسانة ترتبط بي لتحمل تبعات المرض والعيش مع حطام إنسان‏,‏ كما اني خائف من تأثير الإشعاع علي الإنجاب ولست علي استعداد لخوض تجربة فاشلة‏.‏ كما أنني استعيد قسوة الكلمات التي واجهني بها الطبيب الأول فأتراجع عن التفكير في الارتباط بأية إنسانة‏,‏ ثم أسمع من ناحية أخري نداءات الأخوة والأحباء فتميل النفس للفكرة وأقول‏:‏ ولم لا‏.‏ ألست إنسانا كغيري من البشر ولي احتياجاتي العاطفية والنفسية ؟

ولقد صارحت طبيبي الإنسان بترددي بين الرأيين وبما صدمني به الطبيب الأول‏..‏ فقال لي في حزم‏:‏ تزوج غدا ولا تتردد‏.!‏
وانقسم أخوتي بعد ذلك إلي قسمين حول مسألة أخري‏..‏ فالبعض وهم الأكثرية وأنا معهم ـ يريدون أن أذكر الحقيقة كاملة عن تجربتي مع المرض لمن أريد الارتباط بها‏,‏ والأقلية وعلي رأسها أخي الأكبر يفضلون عدم البوح بالحقيقة كاملة‏..‏ وكلا الفريقين يثق في رأيك وحسن منطقك فما هو رأيك الحاسم في هذه المسألة ؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
كلما تعمقت روابطنا بالحياة وامتدت جذورها في الأرض ازداد تعلقنا بها وقويت إرادة الحياة فينا‏,‏ وتصدت أجسامنا بقوة أكبر لمقاومة أسباب الفناء‏,‏ تماما كما تزداد مقاومة الشجرة الوارفة التي تشعبت جذورها في الأرض وامتدت علي عمق كبير‏,‏ للرياح والأعاصير‏,‏ في حين تودي العواصف بالشجرة الجرداء قليلة الجذور لضعف مقاومتها‏.‏ والزواج والارتباط بمن يحب الإنسان أن يقضي إلي جواره بقية العمر‏,‏ وبناء عش صغير للأحلام وإنجاب الأطفال‏.‏ كل ذلك من عوامل تدعيم روابط الإنسان بالحياة ورغبته في مكافحة أسباب الهلاك‏,‏ علي عكس المنسحبين من مباراة الحياة و المتوحدين فيها بلاجذور ولا فروع ولا أصدقاء ولا أحباء‏..‏
ولأن السعادة الشخصية وراحة القلب والضمير والابتهاج بالحياة والتفاؤل بالغد من روافد قدرة الإنسان علي الصمود للأعاصير وأمراض الجسم والروح جنبا إلي جنب مع الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالي والتسليم الكامل بإرادته وقضائه وقدره‏,‏ فإن الزواج ليس حقا لك فقط وإنما هو واجب إنساني وديني أيضا‏,‏ مادام الطبيب المختص قد أكد لك أهليتك له وقدرتك عليه‏.‏

يبقي السؤال المهم الذي يحيرك وهو هل تصارح من تريد الارتباط بها بتجربتك المرضية أي بالحقيقة كاملة كما تري الأكثرية من أخوتك وتؤيدهم أنت في ذلك‏,‏ أم تحجب عنها هذه الحقيقة الكاملة خوفا من تأثيرها السلبي علي قرارها بالارتباط بك‏.‏ كما تري الأقلية منهم‏.‏
والحق هو أننا لا نتقدم عادة لمن نرغب في الارتباط بهم بسجلنا المرضي منذ الطفولة‏..‏ ولا نحدثهم عادة عما اعترانا من أمراض عارضة في رحلة العمر قبل أن نلتقي بهم‏,‏ لكن هناك بعض الأحوال التي تفرض علينا أن نضع أمامهم هذا التاريخ المرضي لكي يتخذوا قرارهم بالارتباط بنا أو الانسحاب من حياتنا عن إدراك كامل لكل الظروف المحيطة ومعرفة صحيحة لكل جوانب الموقف‏..‏ فإذا اختارونا بعد اطلاعهم عليه حتي ولو بعد فترة ضرورية من التردد واستشارة الأطباء‏,‏ فلقد فزنا بشركاء حقيقيين اختارونا بإرادتهم الحرة‏..‏ وبلا تزييف للواقع أو تعتيم عليه‏..‏ وإذا تراجعوا عن الارتباط بنا فليس ينقص من أقدارنا في شيء أن يعتذر البعض عن عدم قبول يدنا الممدودة إليه لأسباب ارتآها‏,‏ وإنما ينقص منها حقا ألا نكون أمناء مع من أردنا أن ترتبط حياتهم بنا‏..‏ وأن نتعمد إخفاء بعض الحقائق التي نعلم عن يقين أنها سوف تؤثر‏,‏ بالضرورة علي قرارهم بشأننا‏..‏ فضلا عما سوف يرشحنا له ذلك من تعاسة واضطرابات في حياتنا حين يتهمنا الطرف الآخر بخداعه في المستقبل ويري في هذا الاتهام مبررا كافيا للانفصال عنا بعد أن نكون قد اعتمدنا عليه في حياتنا وازداد تعلقنا به‏,‏ فالحقيقة أفضل دائما من أي زيف‏.‏
واعتماد المصارحة في مثل هذا الموقف سوف يضمن لنا ألا نرتبط إلا بمن اتخذ قراره بالارتباط بنا عن قبول صادق بكل ظروفنا ورغبة حقيقية في أن يقاسمنا أفراح الحياة واتراحها في الصحة والمرض وفي العسر واليسر‏.‏

فامض في طريقك ياصديقي بلا تردد‏,‏ فلاشك في أن هناك من سوف تسعد بالارتباط بإنسان طيب ومستقيم وعادل مع نفسه ومع الآخرين مثلك‏.‏
أما طبيبك السابق وكلماته القاسية فلا تتوقف أمامها طويلا‏..‏ فلقد تجاوزتها الأيام‏..‏ واجتزت أنت محنة المرض الثانية بسلام والحمد لله‏..‏ ولسوف تلاحظك عناية الله في قادم الأيام‏,‏ وتحميك من كل سوء بإذن الله‏.


انشر
-

هناك تعليق واحد:

;