أنا
سيدة نشأت في أسرة كانت الكلمة العليا فيها للأم وليس للأب.. ووعيت للحياة فلمست
خضوع أبي لأمي وكرهه المكتوم لها.. ومع مرور الأيام رسخت أمي في عقلي ان الرجل
ماهو إلا مصدر للمال, وأن مهمته الاساسية هي تلبية الطلبات التي تحتاج اإيها
المرأة فقط, وبالفعل فلقد كنت أري قياد الأسرة كلها في يد امي. ودخل ابي تتصرف
فيه امي دونه.. كما كنت أري امي تذهب الي عملها في حين يقوم ابي بكي الملابس
وغسل الصحون, واذا لم يفعل ذلك يناله من لسان امي الكثير والكثير..ومضت بي السنوات واصبحت شابة جميلة وتزوجت إنسانا فاضلا
وأنجبت منه ثلاث بنات وحاولت بالطبع تطبيق نظرية امي عن الرجال في التعامل معه..
فحاولت التحكم فيه منذ البداية, وكان هو يستجيب لي في بعض الأحيان, ويقاوم في
احيان اخري, فاذا حدثت بيني وبينه اية مشكلة عادية مما يحدث بين كل زوج وزوجته
اقامت أمي الدنيا ولم تقعدها وأصرت علي أن أهجر البيت مع بناتي وأقيم لديها الي أن
يحضر زوجي ويركع ويعتذر
ويقبل الرؤوس ويبدي الندم ويصحح خطأه ويعوضني عنه.
ويتدخل الأهل لتقريب وجهات النظر, فلا تلين امي ابدا ولاتتراجع ولاتقدم اي تنازل
أو حل وسط.. وإنما لابد من الخضوع التام والاستسلام من جانب زوجي دون شرط أو
قيد.وبعد أن يطول الفراق وتضطرب حياة زوجي.. ويشتاق للبنات خاصة أننا كنا نمنعه من رؤيتهن, يجيء كاظما غيظه وحنقه ومرارته, ويصالحني ويرجع بي إلي بيت الزوجية, وتمضي الحياة بنا الي ان نصطدم بمشكلة اخري فتتكرر نفس القصة بحذافيرها.. الي ان جاءت مرة وهجرت البيت كالمعتاد مع بناتي الثلاث, وقبل ان يأتي زوجي ساعيا للصلح اذا بأمي تبدأ مع خالي الذي يعمل محاميا في شن حرب الدعاوي القضائية الكيدية ضده, وخالي يتزعم المعركة ويلقي المزيد من الوقود الي النار المشتعلة.. ويقيم في كل يوم دعوي جديدة ضد زوجي.. ويقسم ان يشرده ويسجنه ويحصل لي منه علي كل ما أريد, وزوجي لايتكلم ولايسيء الي ويكتفي بالدفاع عن نفسه بقدر جهده, وكلما خسرت قضية وكسبها هو سعي للصلح بيننا واستعادة حياتنا السابقة من جديد لتنشأ بناتنا بيننا, وكانت نفسي تهفو الي ذلك بالفعل, لكن ماذا افعل مع ام طاغية وخال لايعرف الرحمة وأب لاحول له ولاقوة.. فقد كان معني عودتي له اذا حدثت لدي امي وخالي هو انهزامهما في المعركة وامي لاتقبل الهزيمة وخالي كذلك.. وأنا منساقة لهما وخلال عشر سنوات من التقاضي, والدخول للمحاكم والخروج منها بانتصارات وهمية احيانا او بخفي حنين في معظم الاحيان استقر الخصام بيني وبين زوجي وتراكم وصار كالهرم الاكبر.
وخلال هذه السنوات ماتت امي ثم ابي وبقيت أنا مع بناتي وحدي في بيت الأسرة, وأقنع خالي بناتي الثلاث بأن أباهم, رجل متوحش وجبار ويريد قتلهن, لكن الاعوام مضت وكبرت البنات وتفتح وعيهن للحياة وبدأن يسألن عن ابيهن ويرين زميلاتهن بالمدرسة يعشن حياة طبيعية بين آباء وامهات, فيسألنني: لماذا لايعشن هن ايضا بين أب وام. ولماذا لايرين آباهن ابدا.. ولايراهن, خاصة وقد قيل لهن انني امنعهن من الذهاب إليه وبدأت مشاعر الابنة الكبري بالذات تتغير تجاهي تدريجيا خاصة مع التوفيق الذي حققه ابوها في حياته العملية فلقد لمع نجمه في مجاله بعد حين وكرمته الدولة وظهرت صورته في الصحف وفي التليفزيون, فكأنما راحت تسأل نفسها لماذا حرمتها من هذا الأب الناجح والحق هو انه قد حاول طويلا ان يري بناته وان تنشأ بينه وبينهن علاقة طبيعية لكن طغيان امي وغطرسة خالي حالا دون ذلك الي أن جاء وقت شعرت فيه ـ خطأ او صوابا ـ بأن ابنتي الكبري تكرهني في اعماقها وارتبط ذلك بحادث احزنها كثيرا اذ تقدم لها عريس مناسب وأعجبها.. وزارنا واجري تحرياته, وحين علم بكل شيء عنا ذهب ولم يرجع.. وقد احزنني أنا ذلك أيضا, لكن ما هزني بعنف كان امرا آخر.. فلقد حدث خلاف عائلي بين ابنة خالي هذا.. وبين زوجها وهجرت بيت الزوجية وتوقعت ان يقيم خالي علي الفور عدة دعاوي قضائية ضده لينكل به كما فعل بزوجي.. ففوجئت به لايفعل ذلك ويسعي للتفاهم وديا مع زوج ابنته ويبرر ذلك بقوله إنه لايريد أن يبهدل ابنته في المحاكم!
وهنا شعرت بأن خالي قد سدد الي ضربة قوية زلزلت كياني.. وأفقت من غيبوبتي الطويلة ادركت كم كان زوجي مظلوما مع أم متجبرة كأمي وخال متمرس كخالي وزوجة غبية مثلي.. اذ انه إذا كانت المحاكم بهدلة لبنات الأسر الطيبة فلماذا ارتضاها لي خالي وشجعتني عليها أمي بشدة حتي اليوم الأخير من حياتها ولماذا لم يسع أحد إلي التفاهم الودي مع زوجي, كما يسعي الآن خالي للتفاهم مع زوج ابنته.. ألم يكن من حق بناتي ان ينشأن بين أبيهن وأمهن كأطفال ابنة خالي؟
إنني الآن ياسيدي مستعدة لان اذهب الي زوجي واركع تحت قدميه طالبة منه العفو والسماح وان اقول له إنني لا أريد ان أعيش معه كزوجه بل كأقل من الخادمة له ليس من اجلي وإنما من اجل بناتي اللاتي يدعون ربهن كل يوم ان يجمع شملهن بأبيهن.. واناشد كل سيدة تخاصم زوجها ألا تستجيب لتحريض احد ضده وان تحاول حل مشكلتها معه بالتفاهم الودي وليس بالحرب القضائية والدعاوي الكيدية.. وألا تتصور كما تصورت انا بالفعل بتأثير أمي أن نجاح الزوجة هو في إخضاع زوجها لإرادتها أو ركوبه علي حد التعبير الدارج.. لأن السعادة شيء آخر غير ذلك تماما.. ولأن سعادة الابناء ومستقبلهم اهم من كل شيء.. وسامح الله أمي فيما فعلت بي.. وسامح الله خالي فيما اعانها عليه.. وفيما وجهه إلي من ضربة قوية في الفترة الأخير..
ولكاتبة هذه الرسالة اقول
.. وغفر لك أنت أيضا ياسيدتي ما فعلت بنفسك وبناتك وزوجك, فالحق أن مسئوليتك عما جري كبيره بالرغم مما جنته عليك والدتك وخالك والبيئة العائلية غير المثالية التي نشأت فيها, ذلك أنك لو كنت قد تعاملت من الأصل مع زوجك بروح العدل والحرص علي صالح بناتك لما استطاع اي طرف مهما بلغ من تأثيره عليك إغراءك بهدم عشك وشن هذه الحرب الظالمة علي زوجك وفصم علاقته بك وببناته علي هذا النحو المؤلم.
ولاشك في أن الدرس الأول لهذا الجانب من قصتك هو التذكير بأهمية القدوة العائلية الرشيدة في حياة الانسان واهمية سيادة القيم الأسرية الصحيحة والعادلة وضرورة الاهتداء بروح الإنصاف والحق والالتزام بالقيم الدينية والخلقية في التعامل مع الغير.
فإذا كانت حياتك قد خلت ممن كان ينبغي له ان يرشدك الي جادة العدل والحق في التعامل مع شريك الحياه والآخرين بصفه عامة.. فإن الفطرة السليمة لدي من يلتزمون بقيم دينهم وأوامره ونواهيه كثيرا ماتهديهم سواء السبيل بغير علم الدارسين ولانصح الناصحين, وكثيرا مايكون مرشدهم إلي ينبغي لهم ان يتجنبوه.. او يربأوا بأنفسهم عنه هو الحياء من فعل مالايليق بهم فعله ولو لم يكن تحريمه من الناحية الدينية واضحا في أذهانهم.
لهذا جاء في الحديث الشريف ان قلة الحياء كفر بمعني قلة الحياء من الله سبحانه وتعالي.. وجاء فيه ايضا: استح من الله استحياءك من ذوي الهيبة من قومك.
والحق هو أن كثيرا من مآسي العلاقات الإنسانية ينبع من ان استحياء البعض منا من ذوي الهيبة من قومهم اكبر من استحيائهم من الله سبحانه وتعالي, ولهذا فلقد يردهم استحياؤهم من ذوي السلطان عن إتيان مايغضبهم منهم خوف العقاب والأنتقام ولايمنعهم استحياؤهم من خالقهم عز وجل من ارتكاب المعاصي, وظلم الغير وايذائهم والأفتراء عليهم بالباطل واغتصاب حقوقهم.. ولعلك لو كنت قد اعتصمت ياسيدتي بقيمة الاستحياء من الله سبحانه وتعالي وحدها لما فقدت حياتك الزوجية بلا أسباب قاهرة كما حدث معك. لما انجرفت الي هذه الحرب الكيدية ضد زوجك ووالد بناتك ولما انصعت لوالدتك وخالك في حربهما غير الشريفة ضده. بل لما كنت قد تطلعت أصلا لتكرار المثال الفاسد في علاقة الزوجة بزوجها الذي عايشته عن قرب في بيت أبيك مع زوجك.
والمؤسف ايضا في هذا الأمر هو ان غيبوبتك قد طالت كثيرا حتي تقدمت بناتك في العمر وبلغت كبراهن سن الزواج وافتقدن الأب حين تحتاج إليه بناته, وبالرغم من ذلك فإن الإفاقة لم تتحقق عند صدمة فشل ارتباط الابنة الكبري بسبب ظروفها العائلية غير المواتية, وإنما بسبب تساؤلك الممرور لماذا تعفف خالك عن منازعة زوج ابنته قضائيا ولم يشهر ضده سيف الدعاوي الكيدية كما فعل مع زوجك وراح بدلا من ذلك يسعي إلي التفاهم الودي معه والصلح بينه وبين ابنته؟
ولاشك أن من حقك بالفعل ان يثير هذا التطور تساؤلاتك, ويدفعك لمراجعة ما كان من أمرك لأن الجواب القاسي علي هذا السؤال هو ان خالك لم يبادر علي الفور بتحطيم الجسور.. وإشهار سلاح الدعاوي الكيدية لسبب مؤلم لك بلاشك هو أنه لم يرغب لان يعرض ابنته وفلذة كبده للمصير الذي انتهي إليه امرك انت وبناتك! ولأسباب كثيرة قد يكون منها ابنته نفسها وحرصها علي مستقبل اطفالها وعدم رغبتها في قطع الخيوط بينها وبين زوجها, وقد يكون منها درس التجربة العملية الذي تعلمه الخال نفسه من حربه الكيدية ضد زوجك, وكيف كان الخاسر الأكبر فيها هن بناتك اللاتي حرمن من ابيهن ومن الحياة الطبيعية بين ابويهن بلا اي مبرر وقد يكون منها كذلك حكمة السنين التي اكتسبها خلال رحلة العمر ودور الناصح الأمين الذي تقوم به زوجته في حياة ابنتها بديلا للدور المخرب الذي قامت به والدتك في حياتك ودرس التجربة الاكبر لهذه الضربة القوية يذكرنا بما روي عن الامام المحدث بن سيرين حين قال له رجل: بلغني أنك قد نلت مني اي تحدثت عني بسوء فأجابه علي النور: نفسي أعز علي من ذلك. أي عز عليه وأكرم عنده من ان يرتكب مثل هذا الاثم فيضعها بذلك موضع اللوم من أحد.
والواضح هو أنك حين شاركت بالصمت فيما تدبره والدتك ضد زوجك وينفذه خالك لم تكن نفسك أعز عليك مما اخترته لها من موضع. ولم تكن كذلك علي والدتك ولا علي خالك بالرغم من تضامنهما الشكلي معك, لأن من أحب أحدا بصدق لم يعنه علي ظلمه لغيره, وإنما أعانه علي نفسه وعلي النأي بها عن الدنايا.
فإذا كنت قد أفقت الآن من غيبوبتك فإني لأرجو أن يكون ذلك قد جاء بالفعل من باب الرجوع الي الحق ولو كان متأخرا, وليس من باب الاضطرار او الاحتياج الي دور الأب في حياه بناته مع اقترابهن من سن الزواج.. واحتياجهن الإنساني والمادي إليه في هذه المرحلة الحرجة من اعمارهن. ذلك أن هذا المبرر وإن كان مشروعا في حد ذاته.. إلا انه وحده إن لم يصاحبه تصحيح مؤكد للمفاهيم الخاطئة وندم حقيقي علي ماحدث وتغير إيجابي في الرؤية والقيم فانه لايكون دليلا علي العودة إلي جادة الحق بقدر ما قد يكون فصلا جديدا من فصول الأنانية والنظرة المادية البحتة للحياة.
وعلي أية حال فإن إبراء الذمة مما يثقل الضمير يتطلب من المرء أن يعترف بخطئه في حق من ظلمه وأذاه وافتري عليه وان يطلب منه صفحه عما كان من أمره.. ويرد عليه حقه..
فلتفعلي إذن ياسيدتي إذا كان الندم حقيقيا وصادقا عسي أن يمهد ذلك لشفاء النفس من مرارتها. ويفتح الباب لوصل ما انقطع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق