الجمعة، 16 مارس 2012

4) رساله (المشـــــوار الطويــل‏!‏ ) فلم أشعر بدموعي وهي تنساب رغما عني


أكتب إليك لأروي لك قصتي عسي أن يستفيد بها بعض قرائك‏,‏ وأبدأ بأن أعرفك بنفسي‏,‏ فأقول لك أنني سيدة في منتصف العمر‏..‏ نشأت في أسرة متوسطة مستورة‏,‏ وكان أبي ـ رحمه الله ـ أستاذا بأحد المعاهد الأزهرية‏,‏ وأمي مدرسة ثم ناظرة بالتعليم الاعدادي‏,‏ ولي أخوان يصغرانني‏,‏ وقد عشت طفولة سعيدة إلي حد كبير بالرغم من تشدد والدي في تربيتنا‏,‏ حيث كان يؤمن بأن الشدة مع الأبناء تزيدهم صلابة وتعدهم لمواجهة الحياة‏,‏ وأنهيت مراحل تعليمي كلها بتفوق وكذلك فعل شقيقاي‏,‏ وقبل تخرجي بشهور تقدم لي شاب يمت بصلة قرابة بعيدة لأبي‏,‏ ويعمل محاسبا بهيئة كبري‏
,‏ وعرضت علي أمي الأمر فلم أستطع أن أبدي فيه رأيا محددا لأني لا أعرف هذا الشاب ولم ألتق به‏,‏ وعلي عكس تشدد أبي معنا فقد كان لا يفرض علينا شيئا في اختيارنا لنوع الدراسة أو في اختياراتنا لحياتنا‏,‏ فصارحني بأنه يوافق كأب علي هذا الشاب من الناحية العائلية والاخلاقية‏,‏ لكنه يدع لي حق الاختيار بحرية‏..‏ ثم نصحني بأن أعطي نفسي الفرصة لأتعرف عليه من خلال زياراته لنا قبل اتخاذ أي اجراءات رسمية‏,‏ وبالفعل تردد علينا هذا الشاب عدة مرات وجلست معه في الصالون تحت أنظار أبي وأمي‏,‏ وانتهيت إلي الارتياح إليه‏..‏ بل والاعجاب به أيضا‏,‏ فلقد بدا أمامي انسانا جادا وصادقا وراغبا في السعادة‏..,‏ وصارحني في أول أو ثاني لقاء بأنه يفضل أن تتفرغ زوجته لحياتها العائلية وبيتها وألا تعمل‏,‏ وصادف ذلك هوي قديما في نفسي فوافقته علي رأيه‏,‏ وخطبت إليه‏..‏ وتزوجنا بعد عام من الخطبة‏,‏ وجهزني أبي للزواج ولم يبخل علي بشيء في حدود قدرته‏..‏
وبدأت حياتي الزوجية مع زوجي‏..‏ ووجدت فيه انسانا طيبا إلي أقصي حد‏,‏ ويبحث عن الأمان والاستقرار‏..‏ ويساوره دائما شيء من الخوف من المستقبل‏,‏ وفهمت منه أن ذلك يرجع إلي نشأته كطفل يتيم حيث رحل عنه أبوه وهو في الخامسة من عمره‏..‏ وعانت أمه كثيرا لتربيته وحماية ميراثه عن أبيه من أطماع أعمامه‏..‏ وزادني ذلك حبا له وعطفا عليه‏.‏ ووضعت حملي الأول‏,‏ فكان طفلة جميلة سعد بها زوجي سعادة تفوق الوصف‏,‏ وأصبح لا يكاد يغادر البيت بعد عودته من العمل لكي يقضي معها أطول وقت ممكن‏.‏
وبعد عامين وضعت حملي الثاني فكان بنتا أيضا وبقدر فرحتي بها فلقد ساورني شيء من القلق أن يكون زوجي قد خاب أمله في أن ينجب ولدا‏,‏ لكنه لم يشعرني لحظة واحدة بذلك‏,‏ وبالغ في اظهار فرحته بالطفلة الجديدة‏.‏ وقال لي إنه يريد أن يكتفي بهاتين الطفلتين‏..‏ ولا يريد الإنجاب ثانية لكي يستطيع توفير أفضل الظروف لهما‏..,‏ ووافقته علي ذلك‏..‏ لكني في أعماقي تمنيت أن أنجب ولدا يحمي أختيه ويحمل اسم أبيه‏..,‏ وبعد عامين حملت من جديد ولم يعترض زوجي علي حملي ارضاء لي‏..‏ وأنجبت فإذا بي أنجب بنتا ثالثة‏..‏ وبكيت حين علمت ذلك‏,‏ فنهرني زوجي قائلا لي إن البنات يعمرن البيوت‏..‏ وأن من يربي ثلاث بنات ويحسن تربيتهن ويعلمهن دينهن يدخل الجنة‏..,‏ وتأكيدا لفرحته احتفل بسبوع المولودة الثالثة احتفالا صاخبا دعا إليه أبي وأمي وشقيقي وكل أفراد العائلة‏..‏
ومضت بنا الحياة هادئة وجميلة‏..‏ والزهرات الثلاث يملأن حياتنا بالبهجة والسرور والشواغل اللذيذة‏..‏ وترقي زوجي في عمله وانتدب للعمل في دولة عربية من هيئته لمدة عامين فرافقناه خلالهما‏,‏ ورفض أن يتركنا وراءه‏,‏ لأنه لا يطيق البعد عن زوجته وبناته‏..‏ وازدادت الحياة يسرا فاشترينا سيارة مستعملة‏..‏ وشقة صغيرة بالإسكندرية نقضي فيها اجازاتنا‏,‏ وبعد فترة أقامت الهيئة التي يعمل بها زوجي مشروعا لبناء شاليهات تعاونية بالاسماعيلية فاشترينا واحدا منها بالتقسيط علي عشر سنوات‏..,‏ وواصلت البنات التعليم حتي وصلت الكبري إلي نهاية المرحلة الابتدائية والوسطي إلي الثالثة الابتدائية‏,‏ والصغري إلي الصف الأول الابتدائي‏,‏ ثم سقط زوجي فجأة مريضا بمرض مزمن‏,‏ وخيم القلق والخوف علي حياتنا لأول مرة‏,‏ ودخلنا دوامة العلاج والأزمات المرضية الحادة ودخول المستشفيات لمدة عام طويل‏..‏ ثم رحل زوجي الحبيب عن الحياة وعمره لا يتجاوز الرابعة والأربعين‏..‏ وأنا في السادسة والثلاثين من العمر واسودت الدنيا أمام ناظري‏..‏
وبعد أن غادرنا الأهل والمعزون‏..‏ جلست لأفكر في المستقبل‏..‏ ووجدت معاش زوجي لا يكفي لنفقات حياتنا‏,‏ فقررت أن أواجه الواقع بغير الاستعانة بأحد‏..‏ وتذكرت شدة أبي رحمه الله معنا ونحن أطفال‏,‏ وكيف كان يقول أنه يعدنا بها لمواجهة الحياة‏,‏ واتخذت عدة قرارات أقسمت أن ألزم نفسي بها في المرحلة المقبلة‏.‏ وألا أتهاون أبدا في تنفيذها‏..‏ أولها ألا أتزوج مرة أخري بعد زوجي وألا أمد يدي إلي أحد مهما كانت الظروف والأحوال‏,‏ يستوي في ذلك شقيقاي وخالي وعما بناتي‏..‏ وثانيها بيع السيارة ووضع ثمنها في البنك بنصيب البنات ونصيبي ليساعدني عائده علي استكمال نفقات حياتي‏..‏ وثالثها اخراج بناتي من مدرسة اللغات وإلحاقهن بمدرسة حكومية وتعويض فارق المستوي بالمذاكرة لهن في البيت‏..‏ ورابعها الابقاء علي شقة الإسكندرية وشاليه الاسماعيلية لكي يساعدني ثمن بيعهما مستقبلا في تجهيز البنات للزواج حين يجيء الآوان‏,‏ مع محاولة الاستفادة منهما خلال ذلك بتأجيرهما من حين لآخر لزيادة الدخل‏,‏ أما أهم القرارات فهو ألا يعلم أحد من أهلي أو أهل زوجي بما يدور في حياتنا حتي ولو عشنا علي الخبز الحاف‏..‏ وأن نحرص دائما علي أن يكون مظهرنا لائقا أمام الجميع
‏.‏ وتحقيقا لهذا الغرض اشتريت ماكينة خياطة وحصلت علي عدة دروس في التفصيل ولم تمض شهور حتي كانت كل ملابسنا المنزلية وبعض ملابس الخروج من تفصيلي‏..‏ وأصبحت مهمتي الأساسية في الحياة هي أن أوفر لبناتي أفضل الظروف الممكنة في حدود قدرتي‏..‏ وأن أجعل أيامهن سعيدة بقدر الإمكان لكيلا يشعرن بيتمهن وحرمانهن‏..‏ وكلما لاحظت ملامح الانكسار علي وجه إحداهن ضاعفت من محاولاتي لارضائهن وتحقيق رغباتهن البسيطة‏,‏ وفي الليل أخلو إلي نفسي في حجرة نومي وأنظر إلي صورة زوجي الراحل وأستعيد ذكرياته‏..‏ ومداعباته‏..‏ ونظراته المتعلقة بي دائما وحبه لي ولبناته وتسيل دموعي‏..‏
وتوالت الأيام‏..‏ بعضها حلو وأكثرها مر‏,‏ ومرت بي مشاكل كثيرة‏,‏ وفي احدي الفترات ضاقت علي الحياة فإذا بي ـ أشعر بنقمة مفاجئة علي زوجي لأنه تركني لأحمل هذا الهم الثقيل وحدي‏..‏ وإذا بي أشعر أيضا ـ أستغفر الله العظيم ـ بما يشبه السخط علي أقداري وأتساءل لماذا كتب علي هذا العناء؟‏..‏ وفي قمة ضيقي وجدتني أتوقف عن الصلاة مع أني أواظب عليها منذ نعومة أظافري‏,‏ وأنظر إلي المشوار الطويل الذي ينتظرني لكي تصل البنات إلي بر الأمان ويتخرجن ويتزوجن وتنتهي أعبائي‏,‏ فأجده مشوارا بعيدا يصعب علي بعض الرجال أن يقطعوه فكيف أقطعه أنا‏,‏ وأنا المرأة الضعيفة؟ ومتي أضع حملي الثقيل عن كتفي وأستريح؟
وضاعف من حنقي أنني سافرت بالقطار إلي الإسكندرية لأسلم مفتاح الشقة لمستأجر يشغلها شهور الصيف علي أن أرجع لبناتي علي الفور‏,‏ فشاهدت الشواطيء مزدحمة بالسيدات والفتيات الضاحكات اللاهيات‏,‏ ووجدت المستأجر عريسا سيقضي مع عروسه‏3‏ أشهر في الإسكندرية‏..‏ وتعجبت لنفسي حين كان يجيء وقت الصلاة فأجدني جالسة في جمود ولا أتحرك للوضوء‏,‏ وشملت مشاعري السلبية كثيرين مع أن أهلي لم يقصروا معي منذ وفاة زوجي‏,‏ وكانوا دائمي السؤال عني وزيارتي‏,‏ وكثيرا ما عرض علي عما بناتي خدماتهما‏..‏ بل ومساعدتهما المادية فشكرتهما واعتذرت لهما‏,‏ وكذلك فعل مرارا خالي وشقيقاي‏..‏ واعتذرت لهم‏..‏ فلماذا إذن هذا السخط؟
وفي هذه الظروف زارتني فجأة عمتي المقيمة بالأقاليم‏,‏ وهي سيدة طيبة ومباركة‏,‏ وقد جاءت محملة بخيرات الريف كعادتها‏,‏ وقالت لي إنها رأتني في الحلم مرتين وحول رقبتي حبل ضيق‏,‏ فشعرت بالقلق علي وقررت زيارتي‏,‏ فما أن قالت لي ذلك حتي انفجرت في البكاء وارتميت علي صدرها‏.‏ وراحت هي تمسح علي رأسي وظهري وتتمتم بآيات القرآن الكريم‏,‏ حتي هدأت نفسي‏,‏ وحكيت لها عما أشعر به من اختناق وضيق وسخط‏..‏ فهدأتني وطلبت مني إحضار منقد البخور لأنها احضرت لي نوعا جيدا منه‏..‏ واحضرته فوضعت عليه البخور وفاح شذاه في الشقة‏,‏ فشعرت بشيء من الارتياح ثم أخذتني من يدي إلي الحمام وطلبت مني الوضوء ففعلت ورجعت بي إلي الصالة وأقامت الصلاة وأنا إلي جوارها فقرأت بصوتها الخاشع‏:‏ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون‏.‏ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ماتدعون‏.‏ نزلا من غفور رحيم فلم أشعر بدموعي وهي تنساب رغما عني طوال الصلاة‏..‏ وبدأت أخرج من حالتي السيئة علي يدي عمتي الطيبة التي ألححت عليها ألا تسافر في اليوم التالي كما أرادت وأن تقضي معنا بضعة أيام‏,‏ وعدت إلي الصلاة بانتظام وقراءة القرآن كل ليلة قبل النوم‏,‏ وإلي حب زوجي بلا سخط عليه لأنه لا ذنب له في شيء‏..‏ وتقبلت أقداري واستغفرت الله العظيم فيما سلف‏..‏
وقد تسألني ولماذا لم يفكر أحد من أهلك في ترشيحك للزواج من رجل يشاركك تحمل مسئولية بناتك وحياتك‏..‏ وجوابي هو أنني قد حسمت هذه المسألة منذ البداية بألا أستطيع أن أتخيل نفسي زوجة لرجل آخر عدا زوجي الراحل‏,‏ ولا أستطيع أن أضع بناتي تحت رحمة أحد غيري ومع ذلك فإن أهلي لم يكفوا طوال السنوات التالية لرحيل زوجي عن ترشيح الأزواج لي‏..‏ ولا عن تدبير لقاءات الصدفة بيني وبين بعض المرشحين إلا بعد أن تيقنوا من أنني لا أرغب بالفعل في الزواج‏.‏
وكان عزائي دائما هو أن بناتي متفوقات في الدراسة ومهذبات وجادات لا يعرفن العبث ولا يخرجن إلا معي في زيارات للأهل أو للشراء‏,‏ كما أنهن جميعا يجدن أعمال المنزل‏..‏ ويشاركنني في شئون البيت‏.‏ وقد أسعدني كثيرا أن أسمع من جاراتي وأقاربي ثناءهن علي حسن تربيتهن وأدبهن والتزامهن الديني والخلقي‏.‏
ويوما بعد يوم‏,‏ وشهرا بعد شهر تقدمت البنات في العمر والدراسة ودخلت كبراهن كلية البنات‏,‏ ولحقت بها الابنة الوسطي بعد عامين ووصلت الصغري إلي الثانوية العامة‏,‏ وفي هذه الفترة كشرت ظروف الحياة عن أنيابها وكثرت المطالب والنفقات‏,‏ فحملت كل ما أملكه من مصاغ وبعته واستعنت بثمنه علي مطالب الفتيات‏.‏ وتحملنا شظف الحياة عدة سنوات أخري حتي تخرجت الكبري وعملت‏,‏ والوسطي وعملت‏,‏ وبلغت الصغري السنة الثالثة في كليتها‏,‏ وجاء دور الكبري للزواج فجاءني زميل لها يطلب يدها‏..‏ وتأكدت من ترحيبها به فصارحته بأنني قد خصصت لكل بنت مبلغا من المال للمساعدة في زواجها‏,‏ ولن أستطيع أن أقدم لها ما هو أكثر منه‏..‏ فأكد لي أنه يتمسك بها لأخلاقها وتربيتها وليس لأي شيء آخر‏..,‏ وجاءت اللحظة المنتظرة فسعيت إلي بيع الشاليه وشقة الإسكندرية وجهزت ابنتي بنصيبها‏,‏ وزفت إلي زوجها في ليلة سعيدة‏,‏ وتنهدت بارتياح وهي تمضي إلي جوار عريسها إلي عشها الجديد‏,‏ ولم يمض أكثر من عام حتي كنت أقضي ليلتي في المستشفي لأستقبل مولودها الأول وحفيدي‏,‏ ولم تمض شهور أخري حتي تكررت نفس القصة مع ابنتي الوسطي وتزوجت زميلا آخر لها وانتقلت إلي بيتها معززة مكرمة‏..‏
وفي الصيف الماضي تخرجت ابنتي الصغري‏,‏ وكانت فرحتي بتخرجها وانتهاء مشوار الدراسة في حياتي غامرة وعصيبة واختلطت فيها الدموع بالضحكات‏,‏ وقبل أن تعمل جاءني خاطب لها علمت أنها تريده وأسعدني أنه جاهز للزواج في أقرب فرصة‏,‏ فلم أضيع الوقت وسحبت المبلغ المخصص لها وجهزتها‏..‏ وزفت إليه وفي ليلتي الأولي التي أقضيها وحدي في شقتي بعد زواج آخر البنات‏..‏ تذكرت يوم رحل عني زوجي وكبري بناتي في الحادية عشرة من عمرها وصغراهن في الخامسة وكيف تساءلت متي ينتهي مشوار تربية هؤلاء البنات وتعليمهن وتزويجهن؟‏..‏ وكيف أقدر عليه وأنا امرأة وحيدة بلا زوج ولا سند؟‏..,‏ وتذكرت كل لحظة عناء مرت بي‏,‏ وكل ضائقة بكيت لها من القهر وأنا أشعر بالعجز عن تلبية بعض طلبات البنات الضرورية كشراء بعض كتب الدراسة‏,‏ أو شراء حذاء جديد أو حقيبة يد أو ساعة‏,‏ ناهيك عن حلق ذهبي أو أنسيال أو ملابس العيد‏,‏ أو رسوم رحلة ليوم واحد مع الكلية‏..‏ الخ‏.‏
وبالرغم من أنني أعيش وحدي الآن إلا أنني لاأشعر بالوحدة ولا بالملل‏,‏ فلقد ملكت وقتي وحياتي أخيرا بعد طول انشغالي بمعركة الحياة‏..,‏ وأعيش حاليا بنصيبي من معاش زوجي بعد انقطاع نصيب البنات لزواجهن‏,‏ ونصيبي الشرعي من ثمن الشقة والشاليه‏,‏ ويومي يبدأ بثلاثة اتصالات تليفونية من بناتي نتحدث خلالها عن كل شيء وقد تستشيرني احداهن فيما تقدمه لزوجها علي مائدة الغداء‏..‏ أو في شراء بعض الملابس أو إصلاح أحد الأجهزة المنزلية‏,‏ أو أي شأن من شئون الحياة‏,‏ وقد يتكرر الاتصال عدة مرات في اليوم‏,‏ ثم أعد طعامي وأرتب شقتي وأخرج في العصر للمشي والفرجة علي الفاترينات وشراء احتياجاتي‏,‏ وبعض احتياجات البنات نيابة عنهن‏,‏ وأعود قبل الظلام‏,‏فإذا بقي وقت قضيته في القراءة والصلاة ومشاهدة التليفزيون أو في طهو شيء للبنات يحببنه لإرساله إليهن‏..‏ ولا أنام إلا بعد تلقي اتصال المساء من بناتي وتتمني كل منا للأخري أن تصبح علي خير‏,‏ وكلما وقعت عيني علي صورة زوجي الراحل أقول له في سري‏:‏ اطمئن لقد قمت بواجبي تجاه بناتك وبناتي‏!‏ وفي يوم الجمعة يجتمع الأحباب كلهم في بيتي وحول مائدتي‏..‏ ويملأ حفيدي الدنيا علينا بهجة وصخبا‏,‏ وقد أصبح لي أنا المحرومة من إنجاب الذكور ثلاثة أبناء شباب يحبونني وأحبهم‏,‏ يعرضون علي دائما خدماتهم وفي النهاية أقول لكل من تضيق عليه الحياة‏,‏ ويستصعب ظروفه الآن أن الفرج لابد أن يأتي ذات يوم لمن صبر وكافح بإخلاص في الحياة‏,‏ وأن طول المشوار ينبغي له ألا يزرع اليأس في نفوسنا‏..‏ ويجب ألا نفقد أبدا ايماننا بالله سبحانه وتعالي‏,‏ وأن نستعين به علي تخطي الصعاب وتحمل الظروف القاسية إلي أن تتحسن الأحوال‏,‏ ولقد كنت قد فكرت أن أكتب إليك هذه الرسالة تعليقا علي بعض قصص الكفاح في الحياة التي قرأتها في بريد الجمعة عقب زواج ابنتي الصغري مباشرة‏,‏ لكني شغلت بإعادة ترتيب حياتي بعد زواج البنات إلي أن جاءت اللحظة المناسبة لأكتب لك فيها هذه الرسالة‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
يقول بعض الحكماء انك إذا ضللت الطريق في الصحراء فلا تستسلم لليأس والقنوط‏,‏ لأنك إن فعلت ذلك فلقد قضيت علي نفسك بالهلاك‏,‏ وإنما واصل السير في خط مستقيم‏,‏ فان لم تصل إلي الغاية المنشودة فلسوف تصل علي الأقل إلي نقطة أفضل من تلك التي توقفت عندها حين اكتشفت انك قد ضللت الطريق‏!‏
وهكذا الحال مع الانسان في كل ظروف الحياة إن توقف وسلم بالعجز واليأس لم يبلغ الغاية‏,‏ وإن واصل السير برغم المشقة بلغ واحته المرجوة ولو بعد حين‏,‏ وإذا استهول الطريق شك في قدرته علي قطعه واستسلم للقنوط ونكص عن مواصلة المشوار‏.‏

لهذا فمن الأفضل دائما أن نواصل السير علي الدرب المؤدي إلي أهدافنا في الحياة مهما عانينا من أشواك الطريق وعثراته وصخوره‏,‏ وأن نؤمن دائما بأن عناية الله ترعانا وسوف تهدينا إلي غايتنا ذات يوم جزاء وفاقا لصبرنا وكفاحنا الشريف وسعينا لتحقيق غايات نبيلة في الحياة كتربية الأبناء وتعليمهم وتنشئتهم علي الدين والخلق والفضيلة‏..‏ إذ من أحق بعون الله سبحانه وتعالي له ممن يسعي بلا معين لتربية أبنائه وتقديمهم للحياة مثلا حية للقيم الأخلاقية والدينية‏.‏
كما أن واجبنا ألا نركز أنظارنا علي نهاية الدرب فنراها بعيدة عنا بعد الأرض عن السماء‏,‏ ويدفعنا ذلك لليأس من الحياة‏,‏ وانما علينا أن نحدد لأنفسنا أهدافا قصيرة المدي كعلامات الطريق بالنسبة للمسافر كلما بلغ احدها ازداد حماسا للوصول إلي ما بعدها‏..‏ وهكذا حتي يصل في النهاية إلي آخر الدرب‏,‏ فالاهتمام بالنهاية البعيدة خلال الرحلة الطويلة لا يحفزنا علي مواصلة السير والعطاء وإنما يفت في عضدنا ويغرس الإحباط في نفوسنا‏,‏ ولقد كان السير بادن باول مؤسس حركة الكشافة العالمية يقول‏:‏ حين نفكر في المستقبل يزداد احساسنا بهموم الحياة‏,‏ وكتب الفقيه الدستوري الكبير عبد الرزاق السنهوري ذات يوم قائلا‏:‏ ما تعبت لشيء في الحياة كما أتعب حين أفكر في المستقبل‏!‏
ولقد ذكرني تساؤلك الحسير حين اشتد بك الضيق فتساءلت متي ينتهي مشوار تربية هؤلاء البنات الثلاث وتعليمهن وتزويجهن بقصة جميلة لكاتب إنجليزي معاصر عن ثلاثة أشخاص يائسين من الحياة التقوا علي غير موعد فوق جسر لندن الشهير في ظلام الليل‏,‏ وقد جاء كل منهم مهموما بمشاكله ووقف فوق الجسر ينتظر خلوه من المارة لكي يلقي بنفسه في مياه النهر‏,‏ ويرقب بحذر شرطي الحراسة لكيلا ينتبه إلي غرضه فيلقي القبض عليه ويفسد خطته‏,‏ وفي انتظار خلو الجسر من المارة‏,‏ أشعل كل منهم سيجارة وانتظر حتي خلا المكان من المارة لكن الضوء الخافت المنبعث من سيجارة الرفيقين الاخرين أزعج كلا منهم لإشارته إلي وجود شخصين في المكان ينتظر انصرافهما‏..‏ ولما طال الانتظار تنبه كل منهم فجأة إلي أن الآخرين ربما يكونان قد جاءا إلي الجسر لنفس الغرض‏,‏ ويضيق الجميع بالانتظار ويقرر كل منهم أن يطلب من رفيقيه الابتعاد لكي يستطيع تنفيذ خطته‏,‏ ويقترب الثلاثة من بعضهم بعضا‏,‏ ويسأل كل منهم الآخر عن سبب وجوده في هذا المكان في ظلام الليل؟‏!‏ ويعترف كل منهم للآخر بالسبب الحقيقي لوجوده ويرجو صاحبيه الانصراف بهدوء ليستطيع الانتحار‏,‏ ونكتشف أن الأول شاب عاطل طالت فترة بطالته وتأخر في دفع إيجار شقته وفواتير الكهرباء والماء‏,‏ ويئس من تحسن الأحوال فقرر الانتحار‏,‏ وأن الثاني مريض بمرض مزمن ويئس من الحياة‏,‏ وأن الثالث كهل متزوج من زوجة شابة تخونه مع شاب مثلها ولا يجرؤ علي مواجهتها بالخيانة ولا علي الانفصال عنها فيقرر الانتحار‏,‏ ويتعاطف الثلاثة مع بعضهم بعضا‏..‏ ويكتشف كل منهم أنه قادر علي مناقشة مشاكل رفيقيه بمنطق مختلف عن منطق اليأس الذي ناقش هو نفسه مشاكله به‏,‏ فيتفقون علي تأجيل الانتحار يوما واحدا يعيدون خلاله التفكير في مشاكلهم بروح جديدة‏,‏ وأن يعطوا للصباح فرصة أن يطلع عليهم فلربما حمل إليهم بصيصا من الأمل في حل مشاكلهم‏..‏ وينصرف الثلاثة علي موعد للالتقاء فوق الجسر في العاشرة مساء الغد‏,‏ ويلتقي الشاب العاطل مع الكهل المخدوع في اليوم الثاني في نفس المكان‏,‏ ويصارح الشاب رفيقه أنه اكتشف أن صاحب البيت الذي يشكو منه ليس بالقسوة التي كان يتصوره عليها‏,‏ فلقد تفهم ظروفه ووافق علي إمهاله فترة طويلة لدفع الإيجار المتأخر‏,‏ وصارح الكهل الشاب بأنه قد نظر إلي مشكلته نظرة جديدة وأدرك أن الغدر هو عار الغادر وليس عار المغدور به‏,‏ وأن حبه المذل لزوجته الخائنة ليس بالقوة التي كان يظنه عليها‏,‏ ولهذا فهو يستطيع التخلص منها ولسوف يفعل ذلك في أقرب فرصة‏,‏ ويتنبه الاثنان فجأة إلي أن رفيقهما الثالث لم يأت إلي موعده‏..‏ ويطول انتظارهما له دون جدوي فيدركان أنه لابد قد رجع بعد انصرافهما وألقي بنفسه في النهر‏..‏ ومات‏,‏ أما هما فلقد نجوا من الموت لأنهما قد أعطيا الصباح فرصته لكي يحمل لهما شيئا من الأمل في تغير الأحوال إلي الأفضل ذات يوم‏..‏ وهكذا مات من استمسك بظلام الليل ونجا من تطلع إلي نور الصباح‏,‏ كما نجوت أنت من ظلام اليأس والسخط حين استرددت ايمانك بنفسك وعدت إلي ربك‏,‏ وانتظمت من جديد في الصلاة وتخلصت مما ألم بك في احدي مراحل العناء من سخط علي أقدارك وظروفك‏,‏ فأعانك الله سبحانه وتعالي علي أداء رسالتك علي أكمل وجه‏..‏ وحقق لك كل ما تمنيت لزهراتك الثلاث من نجاح في الدراسة وسعادة في الحياة بإذن الله‏.‏

انشر
-

هناك تعليق واحد:

  1. هنيئا لكي جني ثمار الصبر بعد رحلة كفاح مشرفة
    ان مجرد تذكرك لكل هذه التفاصيل لهو مدعاه للاعتزاز بنفسك سيدتي فهنيئا مرة اخرى

    ردحذف

;