الجمعة، 20 مارس 2015

رسالة (هبوب الرياح‏!‏).مفارقات القدر ولا حول ولا قوه الا بالله


ربما تتذكر بعض وقائع هذه القصه‏,‏ لانك كنت طرفا مهما فيها‏,‏ فانا رجل في بدايه العقد السادس من العمر‏,‏ نشات في اسره متوسطه بين اب موظف وام ربه بيت‏,‏ وشقيقه تكبرني بعام‏..‏ وقد مضت السنون‏,‏ ووالدي يكافح لكي يوفر لاسرته الحياه الكريمه‏,‏ وتزوجت شقيقتي والتحقت انا باحدي الكليات العمليه‏,‏ وفي صيف عامي الدراسي الاول سافرت الي احدي دول جنوب اوروبا للعمل خلال الاجازه‏,‏ فاستهوتني الحياه فيها‏,‏ وقررت البقاء علي ارضها‏..‏ وحزنت امي لذلك كثيرا‏,‏ وانا الابن الوحيد لها‏..‏ وشعر ابي بالقلق علي دراستي الجامعيه‏..‏ لكني حاولت ارضاءهما بمواصله الدراسه في هذه الدوله الاوروبيه‏,‏ والتحقت بالفعل بكليه عمليه مناظره لكليتي المصريه‏,‏ وواصلت العمل والدراسه حتي تخرجت‏,‏ وبدات مرحله الدراسات العليا‏,‏ وفي هذه الفتره كان لي زميل مصري تزوج من سيده من احدي دول شرق اوروبا‏,‏ وكانت زوجه هذا الصديق تلح علي دائما ان اتزوج واضع حدا لمشكله وحدتي‏,‏ وعرضت علي الارتباط بشقيقتها المقيمه في بلدها الاصلي‏,‏ ورتبت لي الالتقاء معها‏,‏ ودراسه شخصيتها‏,‏ وسافرت اليها بالفعل في اجازه فوجدتها فتاه جميله وطيبه‏,‏ وترغب بصدق في الحياه العائليه فتزوجتها‏,‏ ورجعت الي مقر عملي علي ان تلحق هي بي حين تجد الفرصه لذلك‏,‏ وصبرت هي علي ظروف بلدها حتي استطاعت الحصول علي جواز سفر ولحقت بي في الدوله التي اقيم وادرس بها‏..‏ وبدانا حياتنا الزوجيه معا في ظروف صعبه‏,‏ نظرا لدراستي للدكتوراه‏,‏ وعملي باحد المكاتب المصريه‏,‏ فتحملت ظروفنا‏,‏ وكانت لي نعم الزوجه الصابره القانعه حتي حصلت علي الدرجه العلميه‏..‏ ولاحظت انه قد مضت ست سنوات منذ زواجنا دون ان تحمل زوجتي‏..‏ ولمست قلقها الشديد لذلك‏,‏ فكانت كلما حدثتني في الامر قلت لها ان الله لم ياذن لنا بعد بالانجاب‏..‏ واستوقفتها‏,‏ وهي التي جاءت من دوله كانت تنكر الدين خلال فتره الحكم الشوعي‏,‏ هذه الاجابه كثيرا‏,‏ وقالت لي انها تعجب لما ابديه من عدم السخط علي حرماننا من الانجاب‏..‏ واعتباره قدرا لا ذنب لاحد فيه‏,‏ فكانت هذه النقطه بدايه مناقشات طويله بيننا عن القضاء والقدر‏,‏ والتسليم باراده الخالق‏,‏ وكانت تسالني فاجيبها بما اعلم‏,‏ واستوضح ما لا اعرفه من رئيسي‏,‏ وكان رجلا متعمقا في الدين‏,‏ واعود اليها بالشرح والتفسير‏,‏ الي ان فاجاتني ذات يوم بانها
قد رتبت بالفعل مع رئيسي وزوجته دخول حظيره الايمان رسميا‏,‏ ومضت السنوات‏..‏ وبعد مرور‏12‏ عاما علي زواجنا شعرت زوجتي بالانزعاج خوفا من تساولات امي عن اسباب عدم الانجاب‏,‏ وانا الابن الوحيد لها‏,‏ وطمانتها من هذه الناحيه‏,‏ وكنت قد تحدثت مع امي بالفعل‏,‏ وقلت لها انني لا استطيع ان اتخلي عن زوجتي هذه ابدا‏,‏ وهي الانسانه التي وقفت الي جواري في اصعب مراحل حياتي‏,‏ وهجرت مركزها المرموق في بلدها الاصلي‏,‏ وتركت اهلها ودنياها السابقه باكملها من اجلي‏..‏ كما ان اسباب عدم الانجاب لا ترجع كلها اليها فهناك كما قال لي الطبيب نسبه كبيره منها ترجع الي‏..‏ فسكتت امي‏,‏ ولم ترجع الي هذا الحديث مره اخري‏.‏
وشغلت بالتفكير في وسيله لغرس الطمانينه في نفس زوجتي من هذه الناحيه‏,‏ وهداني تفكيري الي ان اكتب لك منذ اثني عشر عاما رساله اقول لك فيها انني وزوجتي لم نرزق باطفال‏..‏ وانه لو كان هناك من خلال بريد الجمعه طفل يحتاج لن يرعاه‏,‏ فنحن علي استعداد لذلك‏..‏ وبعد نشركم ردكم علي باسبوعين نشرتم قصه طبيب سوهاج الذي لديه اربعه ابناء ووجد في الصباح علي باب منزله طفلا رضيعا سماه خالد‏,‏ ويريد من خلال بريد الجمعه اسره لم ترزق بابناء لكي تتولي رعايته وتنشئته‏,‏ فاتصلت بكم علي الفور من الخارج‏,‏ ورجوتك ان ترتب لي الحصول علي هذا الطفل مع العلم بانني لن استطيع العوده الي مصر الا بعد شهرين‏..‏ وطمانتني علي ذلك‏.‏

وعشت انا وزوجتي هذين الشهرين‏,‏ ونحن في قمه السعاده‏..‏ وقد بدات اناديها علي الفور بام خالد‏,‏ وبدات هي تناديني بلقب ابي خالد ونشعر بمتعه كبيره‏,‏ وهي تردده‏,‏ وحضرت الي القاهره‏,‏ والتقيت بك في مكتبك‏,‏ وقمت بالاتصال بطبيب سوهاج تليفونيا‏,‏ وقدمتني له ثم اعطيتني السماعه وتحدثت معه‏,‏ وحين علم انني ساعود بالطفل الي مقر اقامتي بالخارج سالني في قلق‏:‏ وكيف ساراه انا‏,‏ واتابع حالته‏..‏ انني اريد ان اراه مره كل سته اشهر علي الاقل‏!‏

وكم كانت صدمتي كبيره حين عرفت باستحاله اصطحابي هذا الطفل الذي عشت انا وزوجتي معه في الخيال شهرين كاملين‏..‏ وسالتك متحيرا‏:‏ ماذا ساقول لام خالد حين ارجع اليها‏!‏
ووجدتك تترفق بي‏..‏ وتقول لي ان من الواضح ان هذا الطبيب الفاضل قد تعلق بهذا الطفل الذي احتضنه‏,‏ وحماه من الضياع‏..‏ ويريد ان يطمئن عليه من حين لاخر‏,‏ لكن هذه ليست نهايه المطاف‏,‏ ولايستدعي الامر الحزن‏..‏ ولسوف تحاول ايجاد حل اخر لي‏..‏ وبالفعل فقد رتبت لي لقاء مع مديره بالشئون الاجتماعيه بمبني مجمع التحرير‏,‏ ورحبت بي المديره‏,‏ وارسلت معي مندوبه الي احدي دور الايتام‏,‏ وكانت معي زوجتي فراينا طفلا سبحان الخلاق العظيم في جماله‏..‏ وسماحه وجهه والنظره الطيبه في عينيه‏..‏ وروت لنا مديره الدار قصته فعرفنا انه تعرض مع امه لحادث فماتت الام‏,‏ ونجا الطفل‏,‏ ولم يستدل علي شخصيه ابيه‏,‏ او امه منذ اكثر من عام‏..‏ وبطريقه تلقائيه سالنا مديره الدار عن الاسم الذي اختاروه له‏,‏ وسجلوه في اوراقه‏,‏ فاذا بها تجيبنا بانه‏:‏ خالد‏!‏ وصرخت زوجتي من الفرحه حين سمعت الاسم‏..‏ اما انا فقد ظننت في البدايه انك قد رتبت مع مديره الدار اختيار اسم خالد لهذا الطفل المحروم‏,‏ تلطفا منك بنا‏..‏ لكني تبينت بعد الاطلاع علي شهاده ميلاد الطفل المحرره قبل عام انه يحمل بالفعل اسم خالد منذ انضمامه للدار فتعجبت لتصاريف القدر التي حرمتنا من طفل سوهاج‏,‏ ووهبتنا اخر من القاهره يحمل الاسم نفسه‏.‏
وبعد اجراءات اداريه طويله ادت الي تاخير عودتي لعملي عشره ايام عن الموعد المقرر حدثت المعجزه ورجعنا الي مقر عملي وحياتي‏,‏ ومعنا خالد وعمره‏16‏ شهرا‏,‏ ولن احدثك عن عمق السعاده والمرح والبهجه التي اضفاها علي حياتنا هذا الطفل الجميل‏,‏ ولاعن حجم اللعب والملابس التي تدفقت عليه‏..‏ لكن يكفي ان اقول لك فقط انه قد اصبح كل شئ في حياه زوجتي‏..‏ ومنذ اليوم الاول خصصت له اجنده دونت فيها كل صغيره وكبيره تتعلق به وبصحته ومواعيد التطعيمات المختلفه‏..‏ واسم كل دواء تناوله‏..‏ ودرجات حرارته علي مدار الشهر‏..‏ الخ‏.‏ وعندما بلغ عامه الرابع الحقناه برياض الاطفال ثم بالمدرسه الانجليزيه لمده عامين‏,‏ ثم باحدي المدارس المصريه لكي يتاسس في لغه بلده‏,‏ ولمده ثلاث سنوات‏,‏ وكان يودي امتحاناتها بالقنصليه المصريه‏.‏

وعندما بلغ الثانيه عشره من عمره عملت بفتوي احد الشيوخ الاجلاء بضروره مصارحه الابن في هذه السن بحقيقه وضعه‏,‏ فصارحته انا وزوجتي علي مضض بالحقيقه‏,‏ وروينا له قصه وفاه امه‏,‏ وعدم التوصل الي هويتها‏,‏ وكيف انني قد احتضنته‏,‏ وتركت عنواني في الدار التي كان فيها عسي ان يظهر والده الحقيقي ذات يوم او جده او خاله‏,‏ فلم يظهر احد‏,‏ ولهذا فلم اتركه‏,‏ ولن اتركه‏,‏ وسيظل ابنا لي الي يوم الدين‏.‏
ولقد تالمنا نفسيا انا وزوجتي بعض الشيء خلال هذه الفتره‏,‏ ونحن نرقب انعكاسات الحقيقه المولمه علي نفس هذا الابن الصغير‏,‏ لكننا تغلبنا علي الموقف بتكثيف الحنان والرحلات والنزهات والمرح‏.‏
وفي الصيف الماضي هبت علي حياتي الامنه فجاه عده عواصف تزامت كلها في وقت واحد تقريبا‏,‏ فلقد مرضت امي مرضا شديدا ورحلت عن الحياه رحمها الله وشعرت بالحزن الشديد عليها‏.‏ وخلال انشغالي بوداع والدتي اتصلت بي زوجتي وابلغتني انها قد لاحظت بعض الاهتزازات المريبه في راس ولدنا ويده‏,‏ فنقلته الي المستشفي حيث بدات الفحوص والاشاعات‏,‏ وعدت الي مقر عملي منزعجا ليصدمني الطبيب صدمه قاسيه بان نتائج الفحوصات قد اكدت ان ولدنا مصاب بالفيروس المسبب لمرض الحصبه منذ صغره‏,‏ لكنه كان ساكنا طوال هذه الفتره‏,‏ ونشط فجاه فاصبحت نسبه شفائه وعلاجه ضئيله للغايه‏,‏ ونصح باجراء عمليه لوضع انبوب معين يتم من خلاله حقن الصبي بدواء روفيرون مرتين في الاسبوع لكيلا تتدهور حالته اكثر خلال العمر المتبقي له من الزمان‏.‏
اما ثالثه العواصف فهي انني وفي هذه الظروف الحزينه قد فقدت عملي بالمكتب المصري بالخارج الذي عملت فيه عشرين عاما‏,‏ وبغير ابداء ايه اسباب‏.‏
ولقد كنت ادفع للمستشفي نسبه من تكاليف العلاج‏,‏ وثمن الادويه وفقا لنظام التامين الصحي المتبع هناك‏,‏ فما ان علم المستشفي بفقدي عملي حتي اعفاني من دفع هذه النسبه علي الفور‏,‏ واما مدرسه خالد فلقد كان بها سلم كهربائي مجهز للمعاقين يصل للدور الاول فقط لوجود حالتين به‏.‏ فتم مده الي الدور الثاني حيث يقع فصل خالد‏..‏ ورتبت المدرسه ان يزور احد المدرسين‏,‏ وثلاثه من زملائه من نفس الفصل‏,‏ واثنان من الفصول الاخري‏,‏ مره كل اسبوع ابننا خالد لكيلا يشعر بان المرض قد حال بينه وبين الدنيا‏.‏
انني حزين من اجل خالد‏,‏ ومن اجلي ومن اجل زوجتي واتعجب لمفارقات القدر التي ترفقت بنا بعد الحرمان‏..‏ فوهبتنا هذا العزاء ثم تجهمت من جديد في وجوهنا فانذرتنا بقرب الرحيل‏..‏ ولا حول ولا قوه الا بالله‏.‏
ولكاتب هذه الرساله اقول‏:‏
مهما تجهمت السماء‏..‏ فلابد من لحظه تنقشع فيها السحب السوداء‏,‏ وتلمع اشعه الشمس‏,‏ فتطرد فلول الظلام لاحزان فترقب لحظتك المضيئه باذن الله ياسيدي بعد هذه الرياح غير المواتيه التي هبت علي حياتك في الفتره الاخيره‏,‏ وثق بان الله سبحانه وتعالي لن يخذلك‏,‏ ولن يتخلي عنك ابدا‏,‏ وانت الذي كفلت طفلا يتيما محروما‏,‏ وادخلت السعاده الي قلبه‏,‏ وحميته من الضياع‏,‏ وانما هي تقلبات الايام‏,‏ وشدائدها التي اعتصرت من قبل اهل الايمان حتي هتفوا بصيحه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه‏,‏ والذين معه حين اشتد بهم الضيق والحصر والهول‏:‏ متي نصر الله؟ فجاءهم البشير من السماء الا ان نصر الله قريب‏.‏
لقد تذكرت وانا اقرا كلمات رسالتك هذه ما قاله ذات يوم الشاعر الانجليزي الغنائي الفريد تنيسون‏1809‏ ‏1892‏ الذي كانت اشعاره تبث دائما الطمانينه في النفوس‏:‏

اننا لانفهم شيئا
لكنه يسعني دائما ان اومن
بان الخير ات للجميع
في نهايه الامر
وكل شتاء لابد صائر الي ربيع‏!‏


كما استعدت الي الذاكره ايضا ما قاله الشاعر العربي البهاء زهير‏:‏
لاتعتب الدهر في خطب رماك به
ان استرد فقد طالما وهبا
حاسب زمانك في حالي تصرفه
تجده اعطاك اضعاف الذي سلبا


ونحن لسنا في مجال محاسبه الزمن علي شئ‏..‏ انما فقط نتامل تصاريف القدر ونتفكر فيها
كما انك لم تحاسب زمانك علي شئ من حرمانك من الانجاب وانما تقبلت اقدارك بنفس راضيه‏,‏ وتسليم مطلق باراده الخالق جل شانه‏..‏ وكان هذا التسليم‏,‏ وهذه النفس الراضيه هما مفتاح الحوار الطويل بينك وبين زوجتك الاجنبيه الذي انتهي بكما الي شاطئ واحد للايمان‏.‏
فلقد طبقت من حيث لاتدري بهذا التسليم‏,‏ ما كان ينصح به القديس فرانسيس داسيس اتباعه من ان يظهروا سلامهم النفسي للاخرين لكي يتساءلوا عما عمر قلوبهم براحه البال‏,‏ وهذه الغبطه لعلهم يميلون ذات يوم الي اختيار ذلك بانفسهم‏.‏
وها قد شاءت الاقدار ان تمتنحنك باختبار جديد يتطلب منك ان تتعامل معه بالقدر نفسه من الايمان والتسليم باراده الخالق العظيم الذي تعاملت به من قبل مع محنه الحرمان من الانجاب‏..‏ وما احسبك سوف تنكص من اجتياز هذا الاختبار بالصلابه والايمان نفسها باذن الله‏.‏
وما احسب ان تجهم السماء وهبوب الرياح غير المواتيه سوف يستمر في حياتك لزمن طويل‏..‏ فلقد حان وقت التعويض عن الاحزان باذن الله‏..‏ ولربما كذبت الايام اشد الظنون تشاذما‏,‏ ولربما صفت السماء وعادت البلابل للتغريد في حياتك علي غير انتظار‏.‏
ولاعجب في ذلك والله سبحانه وتعالي هو وحده عالم الغيب والشهاده الكبير المتعال..‏ يخلق مالا تعلمون وهو علي كل شئ قدير فلاتبتئس‏..‏ ولاتستسلم للضغوط‏.‏
وثق في كل الاحوال والظروف بان التجربه لم تذهب سدي‏..‏ وانها لم تعبر حياتنا بلا جدوي فلقد فزنا بممارسه مشاعر واحاسس جميله لم نكن لتعرفها ولولا ان اراد الله‏..‏ وتعلقنا بالامل في رحمته‏..‏ ولن نمل الرجاء فيه ابدا الي ما لا نهايه‏
.
انشر
-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;