الأحد، 18 ديسمبر 2016

رسالة (طائر الامان)..وطعنها خطيبها هذه الطعنة القاتلة

أقرأ في بريد الجمعة قصصاً فريدة من الحياة وأشعر منذ فترة بالرغبة في أن أضيف إليها قصتي
 
فلقد كنت منذ سنوات طالباً بإحدى كليات الطب الإقليمية، وبعد نجاحي في السنة الأولى رأيت في الكلية فتاة جديدة انتقلت إليها من كلية أخرى، فأُخذت بجمالها الهادئ وعذوبتها وهدوئها وحسن معاملتها للجميع. وعرفت من زملائها أنها وحيدة أبويها وأنهما من رجال التعليم وكرسا حياتهما لها، فربياها على الثقة واحترام الآخرين وحب الناس.
وتعاملت معها كزميل، فأعجبت بطيبة قلبها ورقة حديثها وافتراضها الخير في الجميع إلى أن يثبت العكس. ووجدت نفسي بعد شهور مشغولاً بل هائما بها، أتصفح الوجوه بغير أن أجرؤ على مفاتحتها بمشاعري، ومرت سنوات الدراسة وهى بالنسبة لي كالطيف الحالم يخطر في خيالي فيرطب من هجير الحياة
ويجمل الدنيا ويخفف عنى متاعبها .ورغم ارتياحها للحديث معي لم أتصور استطاعتي الارتباط بها، فكتمت مشاعري في قلبي، وواصلت طريقي تاركا للأيام أن تقضى في أمري!وفى السنة الأخيرة من دراستي بالكلية.. علمت أنها قد عقد قرانها على مهندس شاب مستقر ماديا وأنها أجلت امتحانها الأخير.فطويت صدري على أحزانى وركزت جهدي في دراستي ودخلت الامتحان واجتزته بنجاح.. وبدأت سنة التدريب، فالتقيت بها في الكلية، وهنأتها بقلب كسير على القران. ثم خطر لي فجأة أن أسألها: هل كان من الممكن أن تقبل خطبة زميل من زملائها في مثل سنها ومشواره مازال طويلاً أم أنها كما أتصور تفضل أن ترتبط بشخص ناضج أكبر منها سنا ومستعد للزواج بغير انتظار. وتمنيت من أعماقي أن تجيبني بأنها لم تكن تقبل خطبة زميل في مثل عمرها ومشواره طويل، ربما لأجد لنفسي مبررا لإحجامي وترددي. لكنها أجابتني ببساطة: ولم لا ! وكل زملائنا مخطوبون لبعضهم البعض .. إذ ما العيب في أن يبدأ الإنسان صغيرا ثم يكبر! وأحسست بالحسرة تلسعني وداريت مشاعري وتمنيت لها السعادة وانصرفت. مرت الشهور وأغرقت نفسي خلالها في العمل لأتشاغل عن طيفها الملائكي الذي يعايشني، فإذا بى أفاجأ بها في المستشفى الجامعي الذي أتدرب به محولة من طبيب خارجي على أنها مصابة بالتهاب الزائدة الدودية ، ولم أسترح لهذا التشخيص .لأن ما كانت تشكو منه من ألم كان يتكرر في موعد ثابت كل شهر، وتم إعدادها للجراحة، وكانت المفاجأة عند إجرائها أنها ليست مصابة بالتهاب الزائدة.. وإنما بورم حوصلي بالمبيض هو الذي يسبب لها هذه الآلام المتكررة ، وكان لابد من استكشاف المبيض ثم استئصاله. وخلال هذا الوقت كان بالمستشفى أبوها وخطيبها المهندس ووالدته، وصارحهم الأطباء بحقيقة الحالة .وكنت أراقب الموقف بقلق ولا يتصور أحد أنى على صلة بالمريضة أو أنها زميلتي، فسمعت الأم تحدث ابنها المهندس بعيداً عن والد الفتاة بأن فتاته لم تعد تصلح له لأنها تفقد القدرة على الإنجاب، وأن الأفضل أن يتخلى عن خطيبته وسوف تزوجه ابنة أختها ! وأحسست بألم حاد في صدري، وتمنيت رغم آلامي أن يتمسك الخطيب بفتاته حتى لا يطعنها هذه الطعنة القاتلة وهى في ضعفها. ثم طلب الأطباء دما لإجراء الجراحة ، فاتجهت الأنظار تلقائيا إلى خطيبها، فإذا به يحجم عن التبرع لها بالدم. وفهمت من ذلك أنه قد حزم أمره سريعا، فوجدت نفسي بغير أن أشعر أتقدم لكي أتبرع لها بدمى. وتم إجراء الجراحة واستئصال المبيض الأيمن بسلام، وغادرت زميلتي غرفة العمليات إلى غرفتها بالمستشفى، ولازمتها في الغرفة بعد الجراحة ليل نهار، وأشرفت على راحتها وتنفيذ تعليمات طبيبها ورعايتها. وأحس أبواها بالاطمئنان تجاهي لذلك.. أما خطيبها وأمه فقد انصرفا في صمت! ومضت أيام وبدأت زميلتي تسترد عافيتها ونضارتها شيئا فشيئا، فبدأت أشجعها على معاودة الدراسة لكي تؤدى امتحان السنة الأخيرة، واستجابت لتشجيعي بحماس . وبدأت المذاكرة وهى مازالت في المستشفى ، وسعد أبواها لذلك كثيرا وأحباني من قلبيهما. وجاء موعد خروجها فأصر الأبوان على أن أصحبهم إلى البيت وقبلت الدعوة شاكراً.. وقمت بزيارة بيت زميلتي عدة مرات بعدها ثم انقطعت، ومرت ثلاثة شهور وجاء موعد امتحانها فسمعت من زميلاتها أن خطيبها المهندس قد فسخ ارتباطه بها بعد أسابيع من الجراحة.. وأنه قد عمل بنصيحة أمه وتزوج من ابنة خالته لكي تنجب له وريثا يرث أطيان أمه. كما سمعت من زملائها أن أبويها يذكر أننى بالخير ويحفظان لي وقوفي إلى جانبها خلال الجراحة وبعدها، فوجدت اللحظة مناسبة لتحقيق حلم حياتي، وتقدمت لأبيها أطلب يد ابنته فرحب بى مبدئيا، واستمهلني بعض الوقت لكي يستشيرها وأبلغت أسرتي برغبتي، وقامت الأسرتان بالتعارف ثم أبلغني الأب بموافقة فتاتي بل وبسعادتها بتقدمي لها، فخطبتها وأنا أحس أننى قد استعدت طريقي الصحيح في الحياة وتقدمت فتاتي للامتحان ونجحت فيه. وبدأت سنة التدريب وبدأت أنا المرحلة الأولى من الماجستير، وزادني قربى منها معرفة بروحها الجميلة وأخلاقها الملائكية، ولم أدهش كثيراً لخلوها من المرارة تجاه أحد حتى تجاه من تخلوا عنها وجرحوا كرامتها بلا ذنب جنته، فقلبها فيما يبدو لم يخلق للحقد على أحد. وبعد انتهاء فتاتي من سنة التدريب واجتيازي الجزء الأول من الماجستير تزوجنا، واستقر طائري الجميل في عش الأحلام، وبدأ يغرد أنغام الحب والسعادة. والآن يا صديقي – الذي لا أعرفه – أكتب لك هذه الرسالة بعد 3 سنوات من زواجنا وبالقرب منى يلهو توءم جميلان جمال أمهما وغاية في الشقاوة والعفرتة، والى جانبي تجلس زوجتي تقرأ أحدى المجلات بعين وترقب طفلينا بالعين الأخرى لتلبى مطالبهما وتفصل بينهما في الوقت المناسب. وقد آثرت أن تتفرغ لرعايتهما بعد حصولها على دبلوم النساء والتوليد، والحياة تمضى يا سيدي وقد علمت بكل أسف أن الخطيب القديم المهندس يعالج من العقم عند طبيب زميل لي وأنه لم ينجب ولم يرزق بأطفال بعد 6 سنوات من الزواج وأن الأمل في شفائه ضعيف جداً، وسبحان الذي لا راد لقضائه ومن يعطى الفضل لمن يشاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

*****************************************************************************
                               ولكاتب هذه الرسالة أقول:
*****************************************************************************
تتوالى أمام ناظرينا التجارب والدروس لكن قليلا ما نعتبر !
هذا هو الإحساس الذي خرجت به من قراءتي لرسالتك الجميلة هذه.
 
وبعد كل ما قراناه وسمعناه ولمسناه من تجارب تؤكد كلها أن على الإنسان أن يطلب سعادته المشروعة، لكن بشرط ألا يظلم في سعيه إليها أحدا، وبشرط ألا ينسى دائما أن هناك إرادة عليا تحكم هذا الكون وتوزع الأقدار فلا يبالغ أحد كثيراً في اتخاذ الاحتياطات ضد الزمن، أو في الاعتماد على الحسابات المجردة وحدها؛ لأن الله في النهاية يمنح من يشاء ويقدر، ويحرم من يشاء وهو على كل شئ قدير.
 
لهذا فعلينا دائما أن نهيئ أنفسنا حتى في سعينا المحموم وراء أهدافنا لقبول ما تأتى به المقادير راضين. ويبدو أن الخطيب السابق قد نسى هذه الحقيقة الأزلية بغرور الإنسان واعتقاده بأن من حقه أن يحصل لنفسه دائما على أفضل الأشياء وفى اعتماده على الحساب وحده غافلا عن أهم عنصر في الوجود وهو عنصر " الإرادة الإلهية " فيشاء ربك ألا أن يذكر من ينسى ، ليهتف الغافل : ربنا قد نسينا وأخطأنا ، فكيف كان عقاب! نعم يا صديقي كيف كان عقاب، وهيهات أن ننجو منه أن تجاوزنا الحدود. أما أنت فلقد طلبت سعادتك وداويت الجراح واعتمدت على حسن اختيار الله لك ولم تتوقف طويلا أمام منطلق الحساب وحده وإنما طمعت في رحمته وعدله وحسن جزائه لمن يسلمون الأمر إليه، فأبى ألا أن يهبك السعادة والأمان وراحة القلب. لقد أوشكت أن ألومك على سلبيتك في النصف الأول من القصة وعلى إحجامك وترددك واستشعارك لعدم جدارتك بأن تنال ما تصبو إليه. إذ ما هكذا ينال الإنسان جوائز الحياة.. وإنما ينالها بسعيه الايجابي لتحقيق أهدافه بالطرق المشروعة وبالكفاح وبالإرادة التي تعرف حدودها وتسلم للخالق بإرادته العليا فوق كل الإرادات. لقد كدت أفعل لكنى تذكرت أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ لك ما عجزت أنت عن إيجاد السبل له، فرأيت أن لا وجه للوم الآن بعد أن نسجت الأقدار هذه القصة الجميلة وجمعت بينك وبين طائر الحب والسعادة ، فلم يبق إلا الشكر. ولم يبق إلا أن تحصن سعادتك بخدمة الحياة ومواساة جراح الآخرين وتجنب ظلم الإنسان أو قهره وهو شر البلايا وسر التعاسة البشرية في هذا الكون، فاهنأ يا صديقي بسعادتك وطائرك وأفراحك السعيدة. ولتحل الدنيا لكل من يضيف إليها ، ولكل من يشارك السماء في إسعاد الآخرين ويسهم في تخفيف عذاباتهم. ولكل من تسمو نفسه عن الأحقاد والشرور.

وشكراً.
انشر
-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;