الخميس، 24 نوفمبر 2016

رسالة (سجن الذكريات ) هو حزين مجروح وأنا وحيدة يتيمة


أكتب إليك يا سيدي هذه الرسالة لأستشيرك في أمري .. فأنا سيدة في السابعة والعشرين من عمري تخرجت في كلية الآداب منذ 6 سنوات وعملت أمينة لمكتبة إحدى الهيئات عشت فترة صباي ودراستي بالجامعة كلها بغير أن أرتبط بأحد أو تكون لي أية تجارب وأنا وحيدة أمي وأبي .. وقد تربيت في بيت صغير يظلله الحب والتفاهم فكانت علاقة أبي بأمي دائمًا مثالية ، وكنت أراهما دائمًا صديقين يتبادلان الحب والعطف والاهتمام ويشركانني معهما في هذا الحب والاهتمام ..

وكان أبي مديرًا بإحدى الهيئات لا يملك سوى مرتبه لكن أمي كانت تشعرني دائمًا بأننا أغنى أسرة في العالم بالحب والتفاهم . ومنذ طفولتي تعودت أن أراهما أول كل شهر جالسين إلى مائدة السفرة في جلسة "الميزانية" حين يعود أبي من العمل .. ثم يعطيها مرتبه وكل ما تقاضاه من مكافآت ويجلسان ويضعان تخطيطًا لميزانية الأسرة خلال الشهر .. ويقسمان الدخل على مطالب الأسرة وبعد ذلك يضعان كل النقود في درج البوفيه بالصالة داخل كراسة .. وكلما احتاج أحد إلى شيء أخذه بدون الرجوع إلى الآخر ولكن فقط بعد أن يقيده في الدفتر .. ومازلت أذكر أني لم ألمح أبي وأمي مرة واحدة وهما مختلفين في شيء أو متخاصمين .. بل كثيرًا ما رأيتهما في جلسة أول كل شهر يؤثر كل منهما الآخر على نفسه .. هو يريدها أن تشتري فستانًا للصيف أو للشتاء من ميزانية الشهر .. وهي ترفض وتذكره بأن قمصانه قد أوشكت على البلى وأن عليه أن يشتري قميصين هذا الشهر .. وعندما وصلت إلى السادسة الابتدائية أشركاني في هذه الجلسة .. وأصبحا يسألانني عن مطالبي لتدبير تكاليفها .. بل وأصبحت كما يقول أبي سكرتيرة الجلسة .. التي تقوم بكتابة بنود الميزانية .. وهكذا تعلمت أول دروس حياتي وهو المسئولية والمشاركة .. وأن الحب كفيل بحل كل المشاكل ..

وصدقني أننا لم نواجه أزمات حقيقية أبدًا ، بل كانت لنا مدخرات صغيرة لا تزيد على بضعة جنيهات نقتطعها من دخل الأسر كل شهر ، وظلت تتراكم في الكراسة حتى أصبحت عدة مئات . كما كانت لنا متعنا البريئة .. وسهراتنا .. ونزهاتنا البسيطة .. وفي ليالي الصيف كنا نخرج نحن الثلاثة لنمشي على الأقدام في الحديقة التي تتوسط الميدان الصغير الذي تطل عليه شقتنا ..

وكانت هذه الحديقة وهي مجرد مسطح أخضر من النجيل بلا سور هي تسليتي في أيام الأجازات فكثيرًا ما كنت أجلس في الشرفة أقرأ رواية وأرقب الأطفال يلعبون فيها وتسقط في شرفتي التي تقع بالدور الأرضي أحيانًا كرة أحدهم فألقيها إليه .. أو أطلب منه أن يصعد ليأخذها لأتكلم معه قليلاً وتضحك أمي وتقول لي : أنت تحبين الأطفال لأنك بنت وحيدة بلا أشقاء !

ثم رحل عنا أبي وأنا طالبة في السنة الثانية بالجامعة وأظلمت حياتنا طويلاً .. لكن أمي تماسكت وطالبتني بتحقيق آماله في النجاح والحصول على الشهادة وبالفعل حصلت على الليسانس بتفوق والتحقت بالعمل .. وأصبحت ذكرى أبي شيئًا عزيزًا في أعماقنا نذكرها بالحب .. ونذكر ليالينا السعيدة ونذكر جلساتنا وأحاديثنا .. لكنها لا تعطلنا عن مواصلة الحياة .. وذات يوم كنت جالسة في شرفتي فرأيت في الحديقة شابًا فوق الثلاثين ومعه طفلان في الرابعة والخامسة من العمر يلعبان الكرة وهو يرقبهما ساهمًا .. ويتمشى بالقرب منهما .

ولا أعرف يا سيدي حتى الآن ما الذي جذبني إلى هذا المنظر رغم كثرة مشاهدتي لمثله في الحديقة .. فلقد وجدت نفس مدفوعة لمراقبة هذه الأسرة .. ومراقبة الأب بوجه خاص .. وترسخ لدي الإحساس بأنه حزين لأمر لا أعرفه .. حتى انتهت فترة اللعب واصطحب الأب طفليه ومشى في الاتجاه المعاكس لبيتي .. ولم تخرج هذه الأسرة الصغيرة من ذهني طوال الليل ولا في الأيام التالية .. بل وكثيرًا ما خرجت إلى الشرفة أبحث عنها وأكتئب حين لا أجدها ، وبعد أسبوع شاهدتها مرة أخرى .. وتسمرت في مكاني بالشرفة أرقبهم وتمنيت في أعماقي أن تسقط كرتهم في شرفتي لأحدث الطفلين .. لكنها عاندتني فلم تسقط عندي !!

وتكرر المشهد 3 مرات خلال الشهر التالي .. وسامحني إذا قلت لك أني خلال هذه المرات لم أرفع عيني عن الطفلين .. ولا .. عن الأب الذي لم يلتفت إليّ إلا بعد مرور شهر طويل !! وحين تنبه إليّ بادلني النظرات .. ثم بعد شهر آخر بادلني الابتسامات الحزينة من جانبه .. ثم بعد شهر ثالث التحية .. ثم أخيرًا يا سيدي سقطت الكرة في شرفتي ووجدتني في انتظارها على أحر من الجمر !!

وهكذا تعرفنا وعرفت سر ابتسامته الحزينة .. لقد فقد زوجته منذ 4 شهور .. وتحمل مسئولية رعاية الطفلين .. ولأن شقته لا تسمح للطفلين بلعب الكرة فهو يخرج بهما لمدة ساعة كل أسبوع إلى الميدان القريب من بيته رغم عضويته في أحد نوادي مصر الجديدة ، توفيرًا للوقت .. وابتعادًا عن النادي الذي تعرف فيه بزوجته وكانا يذهبان إليه مع الطفلين ، كما عرفت أنه يتفرغ لطفليه يوم الجمعة أما باقي أيام الأسبوع فهما في حضانة أمه التي تسكن في نفس الحي .. وبعد أسبوع زارتني شقيقته وتقدم لخطبتي وسألتني أمي .. هل ستتحملين مسئولية رعاية طفلين صغيرين ؟ فقلت لها : أنني أحب الأطفال .. وقد أحببت هذين الطفلين بالذات وانفتح قلبي لأبيهما منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها وتمنيته لنفسي وقد جمعتنا الأقدار على غير موعد .. وهو حزين مجروح وأنا وحيدة يتيمة بلا مال ولا سند في الدنيا ، وقد قبلني بظروفي .. فلماذا لا أقبله بظروفه .. فلم تعارض أمي .. وتم الزواج خلال أسابيع وسافرنا إلى جمصة لقضاء أسبوعين من شهر العسل .. وأقبلت على زوجي بكل الحب والحنان الذين اختزنتهما في صدري طوال حياتي ، وبعد 4 أيام فقط طلبت منه أن يُحضر الطفلين لكي يمرحا معنا على الشاطئ ولكي يعتادا عليّ ويألفاني ، وجاءا فعلاً وأمضينا فترة العسل معًا وأنا غاية في السعادة ، وعدنا للقاهرة واتفقنا على عدم الإنجاب حتى يكبر الطفلان ويدخلا المدرسة ، وعدت إلى عملي وسعدت كثيرًا بحب الطفلين لي وتعلقهما بي .. وأصبحت أصطحبهما معي إلى العمل وأتركهما في حضانة الهيئة وأذهب إليهما كل ساعة لأطمئن عليهما وبمرور الأيام خرج الطفلان من الانطواء وأصبحا يناديانني بماما .. ودمعت عيناي من الفرحة حين سمعتها منهما لأول مرة وبدت الحياة تبشر بالسعادة .. لكن زوجي يا سيدي ازداد انطواءً على نفسه .. واجترار لأحزانه ، وأصبح يمضي الأيام ساهمًا رغم محاولاتي لإسعاده .. ولا يشركني في أفكاره وهمومه ، وأنا التي نشأت في بيت لم يعرف إلا المشاركة في المشاعر والأحاسيس وهموم الحياة فهو يفكر وحده وينصرف وحده فإذا ناقشته في أي شيء يذكر زوجته الراحلة .. و"يحاكمني" كأنني السبب في القدر الذي حرمه منها .. فأبكي وأهرب إلى بيت أمي لمدة ساعات أستعيد فيها هدوء نفسي ثم أعود إليه ..

وبدأت أشكو إلى أمه فتنصحني بالصبر عليه ، وسمعت والدة المرحومة بهمومي فبكت وقالت لي أنها لم تطمئن على حفيديها إلا بعد أن عاشرتني ولمست حبي هما ومرت الأيام وهو لا يتغير .. وكل ما أطلبه منه هو أن يشركني معه في مشاكله وفي همومه بل وفي أحزانه وأن نتبادل الحديث والأفكار معًا لكي تتقارب القلوب .. لكنه لا يستجيب حتى وجدت نفسي بعد فترة غريبة عنه .. أحبه لكنه لا يشعرني بمبادلته الحب لي .. ويذكّرني كل يوم بما كانت تفعله زوجته الراحلة .. وبما كانت تقول حتى حفظت كل كلماتها وعباراتها المأثورة وشعرت أنها تعيش بيننا وتمنعه من الاقتراب مني حتى ازداد حاجز الصمت بيننا فاستسلمت للحزن ولم أنطق مرة بكلمة تجرح مشاعره أو تسئ إليها .. وكل ما طلبته منه هو أن يضعني في الاعتبار وكن بلا فائدة .. ثم طلب مني أن أذهب للإقامة مع أمي لعدة أيام حتى يفكر بهدوء في أمرنا .. وبعد يومين جاءته شقيقته تقبلني وتبكي وتقول أنه سيطلقني وأنه يقول أنه ظلمني حين تزوجني .. وتم الطلاق بهدوء ،كما تم الزواج بهدوء .. وانفصلنا بلا أية مشاكل من جانبي أو من جانبه .. وعدت أجلس في شرفتي وحيدة أنظر إلى الميدان الذي شهد بداية قصتي معه .. وأتذكر محاولاتي معه لاكتساب حبه ، وأتذكر الطفلين وشوقي لهما وأسرح .. لقد تقبلت أمي الأمر بواقعية .. وقالت لي يا ابنتي من يحب لا يكره .. فلا تكرهيه ولا تكرهي أحدًا .. واتركي الأمر للعادل الذي في السماء ..

وها أنا أكتب إليك بعد أن انتهى الزواج الذي لم يستمر سوى 11 شهرًا لأسألك هل هذه هي الحياة حقًا يا سيدي ؟ هل جزاء الحب هو الرفض والإنكار .. وهل هذه هي تجربة كل فتاة تتزوج رجلاً فقد زوجته التي أحبها قبلها .. ثم أكتب إليك لأطلب منك أن تناشد كل رجل له ظروف زوجي السابق ألا يظلم بنات الناس ويظلم نفسه معهن وأن يدع بنات الناس في حالهن إذا كان متعلقًا بالذكريات على هذا النحو .. لأن الأفضل له في هذه الحالة أن يعيش لذكرياته وأطفاله فقط .. أما إذا أراد أن يتزوج فاطلب منه على لساني ألا يقارن بين زوجته الجديدة وزوجته الراحلة وأن يرضى بقضاء الله ويسلم به ويحاول أن يكيف نفسه مع ظروفه الجديدة لأنها لا ذنب لها فيما جرى ، كما أن "الحي" أولى بالرعاية ممن سبقنا إلى العالم الآخر .. والسلام عليكم ورحمة الله ..

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أثمن الدروس هو ما نتعلمه من التجارب الأليمة ومن الأيام التي تخصم من رصيدنا في الحياة .. ولقد تعلمت الحكمة يا سيدتي في أعماق الجحيم وأنت تكافحين لاجتذاب قلب زوجك السجين في ذكريات الماضي .. بلا فائدة .. وجاءت كلمات رسالتك الأخيرة أبلغ من محاضرة يلقيها عالم متخصص عن ضرورة ألا يظلم الإنسان غيره بشجونه الخاصة وألا يظلم أي إنسان مر بظروف زوجك زوجته بالمقارنة بين الماضي والحاضر لأن للماضي سحره دائمًا حتى ولو كان مثقلاً بالهموم ، ومشكلة الإنسان أنه بعد انتهاء المشكلة ينسى غالبًا الآلام التي صاحبتها ولا تبقى في ذاكرته سوى ذكرى الأيام الجميلة ، ثم "يحاكم" أيامه الحالية على هذا الأساس ويقسو عليها ولو كان منصفًا لرأى للماضي جماله الذي لا تخلو منه أي مرحلة من العمر ولرأى أيضًا للحاضر جماله الذي لا يخلو منه أيضًا .. وخطأ زوجك الأساسي يا سيدتي أنه لم يعط نفسه فترة نقاهة نفسية كافية يتخلص فيها من تأثير الماضي عليه .. وتتفتح خلالها مسامه من جديد لاستقبال ما تأتي به الحياة ، فكل تجربة أليمة يمر بها الإنسان يحتاج بعدها إلى فترة نقاهة كافية يستعيد خلالها اتزانه النفسي .. ويستطيع أن يجيد الحكم على المشاعر والأحاسيس ، وخطأ البعض أن يستطيلون هذه الفترة ويتصرفون في أعقاب التجارب المؤلمة بمنطق الرغبة في التعويض وهو منطق ظالم لا يخلو من أنانية لأن المرء يطلب به حل مشكلته هو دون التوقف كثيرًا عند اعتبارات الآخرين وظروفهم .. بل وحقوقهم أيضًا .

وقد تسرع زوجك بالارتباط بك قبل أن تهدأ أزمته وتتراجع صورة زوجته الراحلة من مخيلته إلى مكانها الطبيعي في صدره حيث ينبغي أن تُحفظ الذكريات الغالية بغير أن تفسد علينا أجهزة استقبالنا للآخرين كما تسرع زوجك أيضًا في إنهاء التجربة بغير أن يعطي نفسه الفرصة الكافية للمحاولة ومغالبة النفس وترويضها على تقبل الأوضاع الجديدة ولو فعل ذلك لاستطاع بعد فترة قصيرة أن يتواءم معك وأن يضمد جراحه وآلامه وأن يسعد بحبك ورغبتك الصادقة في إسعاده وإسعاد طفليه .

لكنها آفة التعجل يا سيدتي .. التي خلق بها الإنسان عجولاً .. لا يصبر على الألم .. ولا يصبر على الكفاح ويريد الحياة كما يشاؤها هو لا كما تقضي بها الأقدار ولا لوم عليك في كل ما جرى .. فلقد أردت السعادة لنفسك وله ولطفليه وتحملت آلام المقارنة .. والاغتراب النفسي في بيت زوجك المشغول بطيف زوجته الراحلة .. وصبرت على ما تكرهين في حين لم يصبر هو عليه فكان الانفصال فلا تلومي نفسك على شيء يا سيدتي وثقي أن الأيام سوف تعلم زوجك بعد حين كم كان محبوبًا من الأقدار حين وضعتك في طريقه لتساعديه على التخلص من آلامه فلم يقدر للسماء هديتها حق قدرها ولم يحفظ لك الود الذي تستحقينه .

أما أنت فإني أنصحك أن تتخلصي من آثار هذه التجربة خلال فترة مناسبة وأن تتفتحي للحياة من جديد ، وأنت شابة في مقتبل العمر .. وأمامك الحياة ممتدة ، ولأن الضربة التي لا تقتلنا تقوينا وتزيدنا قدرة على التعامل مع آلام الحياة ثم أيضًا ، لأننا لابد أن نؤمن دائمًا مع الشاعر التركي ناظم حكمت بأن "أجمل أيام حياتنا لم تأتِ بعد" ولابد أن تأتي .. ولابد أن ننتظرها وسوف تأتي بالضرورة لأن أحق الناس بالسعادة هم من ظلمتهم الحياة ذات يوم .
انشر
-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;