الاثنين، 26 ديسمبر 2016

رسالة (القلعة الحصينة) ..أنا طبيبة وهو ميكانيكي ولكني أحبة

أنا يا سيدي فتاة في السادسة والعشرين من عمري أنهيت دراستي بكلية الطب وأستعد الآن لدراساتي العليا للحصول على الماجستير ثم الدكتوراه إن شاء الله ولقد كانت دراستي ومازالت هي اهتمامي الأول لكنه ليس الوحيد فأنا حريصة أيضا على الاهتمام بمظهري وقد وهبني الله جملا لا تخطئه العين كما وهبني القدرة على حب الناس حتى من لا أشعر بأنهم يبادلونني نفس الإحساس , فكنت دائما ملجأ لزميلاتي في أوقات ضيقهن فأنصحهن بما أراه صوابا , أما بالنسبة لزملائي فقد تقرب كثيرون منهم محاولين استمالتي
لكني لم أجد في نفسي أي ميل للاستجابة لهذه المحاولات المهذبة فكانت طريقتي هي الصد بمودة لا تقطع علاقات الزمالة ولكن بحزم أيضا يمنع الزميل من تكرار المحاولة بغير مرارة في النفوس أو أي إحساس بالاهانة , وكذلك نفس الحال مع من يتقدمون إلي عن طريق الأهل والأصدقاء , ولم أكن أسأل نفسي لماذا لا أميل لهذا أو لذلك فقد كان قلبي موصدا كباب قلعة حصينة وكان هذا دائما مثار قلق أبي وأمي ومثار دهشة صديقاتي وأختي الصغرى خاصة أنه لم يكن لدي وجهة نظر قوية أبرر بها رفضي المتكرر لمن يتقدمون لي أو أدافع بها عن موقفي .
 ومن خمسة شهور لاحظت أن موتور سيارتي ليس على ما يرام فطفت بها على عدة ورش لميكانيكا السيارات , لكن خلل الموتور ظل كما هو فنصحتني إحدى صديقاتي بالذهاب إلى ميكانيكي تعرفه مدحت كفاءته وحسن معاملته فأخذت سيارتي وذهبت إليه وشرحت له ملاحظاتي عليها فطلب أن أتركها له وأعود لأتسلمها بعد ساعتين وعدت إليه فوجدته ينتظرني وشرح لي العيب وكيف أنه بسيط لهذا لم ينتبه إليه زملاؤه ثم رفض أن يتقاضى مليما مؤكدا أنه لم يفعل ما يستحق عنه أجرا .
 فغادرته شاكرة ..لكني لاحظت إني طوال طريق العودة وأنا أفكر فيه ..! نعم أفكر فيه هذا الميكانيكي الشاب وليس في أحد من أساتذتي بالكلية ولا أحد من زملائي أو أقاربي ...لماذا تتعجب ؟..
 وأنت بلا شك تعرف هذه الأمور جيدا وتعرض عليك قصص أعجب منها ؟
 المهم وجدت نفسي منجذبة إليه بطريقة لم أعهدها في نفسي من قبل فذهبت إليه بعد أسبوع بحجة الاطمئنان على حالة السيارة ووجدت عيني تتعلقان بوجهه الطيب السمح وعينيه الطفوليتين فتبادلت معه بعض العبارات عن السيارة ثم تركته وأنا عازمة على ألا أعود إليه مرة أخرى حتى أجنب نفسي عناء التعلق به ثم البعد عنه .
 لكنه بعد يومين أبلغني شقيق صديقتي أن الميكانيكي الشاب قد عثر على قطعة غيار لسيارتي سوف تحل مشكلتها نهائيا فذهبت إليه بالسيارة وأنا واثقة من أنه يريد أن يراني كما أريد –أنا- أن أراه , ووصلت إلى محله فوجدته مهندما أنيقا وعلى شفتيه ابتسامة حائرة , وأبلغني بأننا سنذهب معا إلى محل صديق له لإحضار قطعة الغيار وركب إلى جواري فأحسست بأنه يريد أن يقول شيئا ولا يجرؤ عليه .
 وذهبنا إلى محل الصديق واشترينا القطعة وعدنا لتركيبها وانصرفت وأنا أعرف في داخلي أني سأعود إليه مرة أخرى , وعدت بالفعل وتكرر ذهابي إليه بحجة إصلاح السيارة وفي كل مرة أراه فيها أكتشف جانبا جميلا في شخصيته لم أكن أتصور أن أجده في شخص يعمل حرفيا منذ صباه ووجدت مشاعري كلها معه خلال خمسة شهور فقط أما هو فقد تعلق بي بصورة حيرتني وكلما لمح حيرتي قال لي أنه وجد في ملامحي أو في شخصيتي شيئا يذكره بحنان أمه التي فقدها صغيرا وكلما بدأنا نتحدث في الزواج وأحس من كلماتي أن رد فعل أبوي سيكون معارضا إلى حد اعتبار الزواج ضربا من المستحيل تنساب الدموع من عينيه في صمت .
 والآن أجد نفسي يا سيدي عاجزة تماما عن التفكير وعن التركيز في دراستي وعن ممارسة حياتي الاجتماعية التي اعتدتها وكل ما يشغلني وأفكر فيه هو كيف سأواجه أبي وأمي .. وماذا سيكون موقفهما .
 وهما كأي أب وأم يتمنيان الحياة المستقرة لأبنائهما .. والمشكلة هي أني لا أضمن لنفسي هذا الاستقرار إلا مع من اختاره قلبي فكيف أقول لهما كل ذلك وأقوله لكل من ينكر أن القلوب والمشاعر لا تعترف بالشهادات ومن اختاره قلبي في النهاية ليس أميا ولا جاهلا بل هو مثقف ثقافة لا يعرفها كثيرون من الجامعيين ويناقش أدق الموضوعات مع من يفهمونها جيدا وله رأي صريح في معظم الموضوعات التي تتناولها الصحف , كما أنه مستقر ماديا ويستطيع أن يتحمل مسئوليتي كاملة إذا وافق عليه أهلي .

وأنا الآن يا سيدي أنتظر ردك على رسالتي كالمتهم البريء الذي ينتظر إما حكم البراءة أو حكما قاسيا , ولن أحاول التأثير على مشاعرك لكن فقط أود أن أذكرك أن ردك سيحدد مصيري ومصير حبيبي لأني عاهدت نفسي أن ألتزم به مهما كان مؤلما لي وكحل أخير للخروج من حيرتي التي شلت كل شيء في حياتي .

 ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 كل قلعة حصينة يا آنستي لها فارسها الذي يدك بابها في الوقت المناسب فينفتح أمامه على مصراعيه وهذا ما حدث معك لكنك تواجهين اختيارا صعبا ..وتضعينني أنا أيضا في اختيار أصعب, ورأيي في مشكلتك أني أؤمن بأن السعادة شيء نادر وثمين يستحق المعاناة للحصول عليه والكفاح الضاري للوصول إلى شاطئه لكن تجارب الحياة علمتنا أن الإنسان لا يتزوج من فتاته وحدها وإنما من أسرتها معها ومن وسطها العائلي والاجتماعي وأن كل إنسان هو ابن بيئته مهما حاول أن يتملص من تأثيراتها عليه والحياة الزوجية ليست علاقة رومانسية عاطفية فقط وإنما شبكة متداخلة من العلاقات الاجتماعية والإنسانية أيضا ويندر أن يصمد الحب على المدى الطويل لمشاكل اختلاف الطباع والعادات الاجتماعية والقيم السائدة بين بيئتين متفاوتتين بشدة اجتماعيا وثقافيا وإن كان هذا لا يمنع صموده في بعض الحالات القليلة لأن لكل قاعدة استثناء كما تعرفين .

وانجح الزيجات بصفة عامة هي الزيجات التي تتوافق فيها أحكام القلب مع أحكام العقل .. ويتوافر فيها التكافؤ بين الزوجين من كل الوجوه , وفي عوامل التكافؤ فإني لا أتوقف طويلا أمام التكافؤ المادي لأنه أضعفها تأثيرا على الحب , لكني أتوقف دائما عند التكافؤ الاجتماعي والثقافي بين الطرفين لأنه فعلا بؤرة الاختبارات التي تمتحن الحب وتعجم عوده, وفي حالتك فإن التكافؤ المادي متوافر , والتكافؤ الثقافي قد يمكن تجاوزه بصعوبة لأن المعرفة والثقافة متاحة للجميع من مصادر عديدة وهي ليست رهينة بالشهادات العلمية والجامعية وحدها وإنما باستيعاب الإنسان لحقائق العصر واهتمامه بمتابعة ما يجري حوله .

يبقى إذن العامل الهام وهو التكافؤ الاجتماعي بين الأسرتين وبين القيم السائدة في البيئتين وهو كما قلت أصعبها وأكثرها تأثيرا على استمرار الزواج ونجاحه أو فشله وانهزام الحب, لأنه امتحان يومي للتوافق ...أو الاختلاف  حول أمور الحياة اليومية .. وأبسط سلبياته هو شعور الاستعلاء والتميز الاجتماعي الذي يمكن أن يحمله طرف تجاه طرف آخر فينعكس لدى الطرف الأخير في الاحساس بالنقص الذي يفتح الباب لكثير من المشاكل وغير ذلك كثير منه فمثلا إن ما يعتبر أمرا عاديا في وسط معين قد يعتبر عيبا في وسط آخر ...إلخ واختلاف العادات والقيم سبب أساسي من أسباب انعدام التوافق وفشل الحياة الزوجية وحقائق هذا العامل بالذات ليست كاملة أمامي وأنت تعرفينها أكثر مني لذلك فإني أترك لك الحكم عليه ...فإذا توصلت بعد تفكير هادئ إلى أن الوضع الاجتماعي لكما شديد التناقض بما يمكن أن يهدد استقرار الحياة الزوجية في المستقبل فمن واجبك أن تعترفي بذلك وأن تتخذي قرارك على أساسه أما إذا توصلت إلى أنه ليس متفاوتا بهذه الحدة , فاستجمعي إرادتك و شجاعتك وواجهي أبويك برغبتك في الارتباط به وتحملي العاصفة حتى تمر ... واحرصي على أن تحصني سعادتك بموافقة الأهل على زواجك وتأييدهم أو على الأقل قبولهم له .

والأهل قد يرفضون ما لا يرونه محققا لسعادة أبنائهم بحساباتهم هم لكنهم إذا استشعروا صدق رغبة الأبناء فيما يريدونه لأنفسهم واستقر في يقينهم أنهم لن يسعدوا إلا به وسيشقون بغيره .. فإنهم يسلمون برغبة الأبناء في النهاية لأنهم لم يستهدفوا أصلا إلا ما تصوروه محققا لسعادتهم وهم مهما فعلوا لا يملكون لأبنائهم الراشدين سوى النصيحة والتحذير .

لهذا فالأمر كله بين يديك .. فأن اقتنعت اقتناعا كاملا لا يداخله الشك بأنه يستحق الكفاح مع أبويك لإقناعهما فهيا إلى الكفاح بلا تردد.


أما إذا داخلك الشك ولو للحظة في جدارته بالعناء وتحمل تبعاته فلا تترددي في أن تضعي السطر الأخير في هذه القصة كلها وفورا لأن جرح الحب في بدايته سريع الالتئام .. أما إذا تعمق واتسع وأصبح غائرا فإنه يحتاج إلى علاج طويل قبل أن يبرأ القلب منه ويسترد نضارته ..فاختاري لنفسك يا آنستي لأنك أنت من ستتحملين تبعة الاختيار وليس أحدا غيرك ...وشكرا
انشر
-

هناك 5 تعليقات:

  1. رحمك الله استاذ عبد الوهاب افتقدناك في عالم تنقصه الحكمة وينقصه العقل وينقصه الضمير

    ردحذف
    الردود
    1. رحمك الله واسكنك فسيح جناته أستاذ عبدالوهاب مطاوع

      حذف
    2. رحمة الله عليك ، مقالك الاسبوعي كان يمثل بالنسبة لي غذاء روحيا اسبوعيا ، وكنت انا وابنة اختي نجلس اسبوعيا في نقاش رائع حول مقالك ، افتقدك حقا

      حذف
  2. جرح الحب في بدايته سريع الالتئام ..

    ردحذف
  3. اقر بحسن الرد من كاتبنا رحمه الله وهذه تجربه شخصيه فانا خريج احدي كليات القمه العمليه واسرتي متوسطه الحال اقترنت ببنت ابوها سباك وانجبت منها ولدان الان في عمر الشباب ولان كل انا ينضح بما فيه ولم اري عيوبها وعيوب اهلها الا بعد ان تزوجتها والان اعاني منه الامرين وقمت بتطليقها وحين سات نفسيه ولداي بدرجه كبيره بسبب الطلاق ردتها وعادت لدناتها اخري فنصيحه لمن يتزوج ابحث عن ما يساويك اجتماعيا وفكريا واخلاقيا ولا تنخدع بما يزين لك.

    ردحذف

;