الاثنين، 26 ديسمبر 2011

5) رساله ( لهيب النار) رد الزوج علي زوجته صاحبة قصة (العام الاخير)

أخيرا تلقيت الرسالة التي كنت أنتظرها بلهفة منذ أسابيع .. ولم أطق صبرا حين عرفت شخصية كاتبها (زوج صاحبة رسالة العام الأخير).. فالتهمت سطورها التهاما ثم عدت لقراءتها مرة أخرى بترو شديد وأسرعت لأضعها تحت أنظار قراء هذا الباب الذين أعرف أنهم كانوا ينتظرونها مثلي :
تقول الرسالة الهامة: أخي العزيز....
ها هو الفأر يخرج أخيرا من مخبئه بعد طول صمت واختفاء

.. ولا أعرف والله ماذا أقول .. إذ هل تتكلم الفئران؟. لكني سأستجمع شجاعتي وصبري وتفكيري لأتكلم بعد أن وجدت أن هناك من ينتظرون كلمتي كأنني ممثل مشهور أو صحفي كبير .. وأعتقد أنك الآن قد عرفتني- فأننا الطبيب زوج ((الطبيبة)) التي كتبت لك الرسالة الشهيرة عما جرى لها ولنا في ((العام الأخير)) .
لقد صمت خلال الفترة الماضية لأني لم أكن أجد كلاما أقوله .. واعترف لك أن الفكرة الوحيدة التي خطرت لي يوم نشر الرسالة هي أن أكتب لك رسالة أقلد فيها خط زوجتي . ونحن متشابهان في كل شيء حتى في الخط وازعم لك فيها على لسانها أني خدعتك وألفت لك هذه القصة من خيالي لكني وجدت الفكرة حمقاء لا داعي لها فصمت حتى قرأت تعليقات قرائك على رسالة زوجتي وتأثرت بمشاعرهم قررت ان أتكلم معك حديث النفس للنفس وأحادث زوجتي لأول مره بعد ما جرى من خلالك . وقبل أن أبدأ أحب أن أشكر الأخ الفاضل الذي أرسل لك دعوة لنا لأداء العمرة على نفقته واعده بأنني خلال هذا الأسبوع سوف أقوم بإجراءات سفري للعمرة ولكن على نفقتي واعتذر له ولك عن عدم قبول دعوته الكريمة لأني صراحة لن أستطيع أن أتحمل إحساس بأن هناك شخصا أو أسرة تعرفني وتعرف قصتي وما جرى لنا , وأنا اعتذر مرة أخرى له ولك , وسوف أؤدي العمرة وسأغتسل بماء زمزم واشرب منه- (وماء زمزم لما شرب له) – وأدعو الله بالمغفرة والنسيان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولأنني بفضل رسالة الطبيبة قد أصبحت من ((المشاهير)) – ولكن أي شهرة وأي ألم – فقد أصبحت موضوعا للمناقشة .. لهذا فإني أريد أن أرد أيضا على الأخت التي كتبت لك تستغرب من تسامح الرجل الغربي مع زوجته في مثل هذه الظروف وعدم تسامح الرجل الشرقي معها مع أنها ضحية , فأقول لها يا أختاه أن تقاليد الغرب شيء ونحن شيء آخر ولا دخل للتسامح الإسلامي في ذلك , فالنفسية الشرقية يصعب تغييرها وهي نفسية يشترك فيها الجميع بغض النظر عن أديانهم .. والزوجة عندنا شيء مقدس وشديد الخصوصية بالنسبة للزوج .. وحاولي أن تفهمي ذلك !
والآن جاء دوري للكلام .. وفي البداية أحب أن أعرفك أخي بأنني بشر ولست ملاكا : أحب واكره وأنسى وأتذكر .. فلا تطالبني بأن أكون ملاكا .. ولقد تجمعت الشفقة حول (( الطبيبة )) ولكن من يشفق علي أنا ؟ .. وهناك فاق كبير كما بين الأرض والسماء بين أن تسمع أن زوجتك قد خانتك وبين ان تراها بعينيك .. إنه شيء لا أستطيع وصفه ولا أحب أن أتذكره وإن كنت لا أنساه .. لقد ثرت حين وجدت الرسالة منشورة وأحسست بان الجميع عرفوني .. وتصورت أن ((الطبيبة)) كتبت لك أيضا بالاسم والعنوان , لكني وجدتك في الأسبوع التالي تكتب أنها لم تكتب الاسم والعنوان فهدأت قليلا , خاصة أن الأهل لم يساورهم الشك كثيرا في أننا أبطال القصة .. ثم تأكدوا بأننا لسنا المقصودين بها , والحمد لله على ذلك.
والآن أريد أن أناقش مع نفسي ومعك ما حدث واعترف لك في البداية أنني ظللت أفكر منذ تلك اللحظة القاسية وللآن هل أنقذتها من الموت لأنني أحبها.. أم لأنني طبيب وهذا واجبي؟ ولم ((اعلم)) الإجابة!
لقد تزوجتها باختيار العقل لأننا حين نتزوج فإننا نتزوج من تحمي البيت وتحفظ نفسها وزوجها , ولم يخدعني عقلي في اختيارها فكانت دائما زوجة صالحة لم يرتفع صوتها أمامي مرة واحدة منذ ان عرفتها .. ولم تختلف معي يوما وكنا دائما نناقش كل أمورنا على انفراد بهدوء ولا نشرك فيها احد . ولم نفرق يوما بين نقودي ونقودها فكل شيء باسمي . الشقة والنقود وكل شيء بالرغم مما كنت اسمعه في الغربة عن المعيشة بالمناصفة بين الأزواج والزوجات والمعارك المستمرة بين الزوجين بسبب النقود والمدخرات ... الخ , لهذا فقد أحبتها أمي كثيرا وقالت لي أن من يرضى عنه ربه يرزقه بالزوجة الصالحة , وحسدني عليها الجميع حتى إخوتي – وقد سمعتها ذات مرة أختي بأن تبر زوجها وتطيعه لأن الرسول صلوات الله عليه قال أنه لو كان ليأمر أحدا يسجد لغير الله لأمر الزوجة بأن تسجد لزوجها وبصراحة فقد أعطاني هذا الحديث الذي سمعته – وزوجتي ترويه لأختي – غرورا شديدا , وزوجتي أكثر تدينا مني ومحبوبة من الجميع فأحببتها .. نعم أحببتها لأني لم أر معها إلا خير وكانت نعم الزوجة لي .. وكما قلت لك فنحن متشابهان في أشياء كثيرة حتى في الخط لأنها عشرة سنين وقد كنت حين تمرض أقلد خطها وأنجز بعض أعمالها نيابة عنها .. والجميع يغبطوننا على ما نحن فيه من وفاق وحب وسعادة .إذن ماذا غير حالي الآن؟ . لقد راجعت حياتي وأوراقي فلم أجد سببا لهذا إلا الابتلاء وهذا العقاب .. حتى خطبة الجمعة الماضية سمعت فيها أن أكثر الناس ابتلاء أكثرهم إيمانا .
أعرف أنني أتكلم بلا ترتيب لأني أتجنب الموضوع إياه , لكني أريد أن أقول ((للطبيبة)) ما عجزت عن أن انطق به طول الأيام الماضية .. أريد أن أقول لها : أسف .. أسف حقا لأنه لم يكن بيدي شيء .. لم يكن بيدي شيء كان يجب أن تلوميني .. أن تعاتبيني . إن نظرة البراءة في عينيك تقتلني وتشعرني بعجزي .. لكن ربما يطهرنا ماء زمزم مما نحس به .
أما أنت يا أخي فأريد ان أقول لك بصراحة شيئا عن سر هذا الحزن العميق الذي يحرقني بالنار .. إنه طبعا ما حدث للطبيبة ولي .. ولابني الرضيع الذي ضاع منا في الزحام ثم هذا الشيء الآخر الذي لا يعرفه كثيرون .. ولا يخطر لك على بال فهل تعرف أنني تطوعت في المقاومة الشعبية سنة 73 رغم صغر سني .. وهل تعرف أني كنت في صباي من المشبعين بالأفكار الاشتراكية حيث اصطادني .. نعم اصطادني أستاذي وأنا في السنة الثانية إعدادي بسبب نبوغي ولقنني كل شيء عن الماركسية , وهل تعرف أنني سرت في مظاهرة ضد كامب ديفيد وضد أي تعاون مع إسرائيل وكنت من أنصار الفلسطينيين , وعندما دخلت الجامعة تخليت عن أفكاري الماركسية واتجهت للتدين ..
وواجهت تحديات كثيرة بصلابة واعتقلت مرة وأنا طالب بسبب نشاطي مع الجماعات الدينية .. وهل تعرف أنني كنت من النوع الذي يجيد الكلام ويعجب بكلامه من يسمعه وكانت زوجتي دائما مبهورة بي وتحس أنها قوية وهي معي وأنها بكلماتي تصبح أقوى على مواجهة الحياة .. هل تدرك معي عمق هذه المفارقة حين انهار كل ذلك فجأة وتبخر عندما رأيت بندقية مسددة الى صدري؟ لقد خرست الكلمات المبهرة وتبخرت الجرأة والشجاعة .. وظهر الجوهر خاويا من كل شيء .. من كل شيء يا سيدي .. فكيف انظر في عين من كانت تظنني شجاعا لا أبالي بالمعتقل .. ولا أتردد في الاشتراك في المظاهرات .. وتحس بأني حاميها وسندها في الحياة؟ لقد تعريت أمامها تماما وأصبحت أحس بنظراتها كرابيج تلسعني وتقول لي : يا جبان يا من لم تحمني والذئاب تنهشني .. أين كلامك المنمق .. أين الأمان الذي تمثله بالنسبة لي؟ .. أين .. أين .. وأين؟
انني اعلم انني لست ملاكا وإنما إنسانا له جبنه وله قوته .. لكن ألم أكن أستطيع أن أبدي قليلا من الشجاعة؟
إن كل كلمات العالم لا تستطيع أن تعبر عن مشاعري .. فأرجوك أنت أن تتفهم مشاعري وموقفي وأن تتولى إفهامها بكلماتك الجميلة كل ذلك.
أما فكرة الطلاق الملحة فهي أنانية مني لكني لا أقوى عليها ولا أقدر عليها كما لا أستطيع انم احضر إليك .. ولا أن أكتب إليك اسمي ليس لعدم ثقة فيك ولكن لخوفي من أول لقاء لي معك وأنت تعرف نقطه ضعفي وربما أحضر إليك يوماً ما فيما بعد .. والمؤكد أني سوف أكتب لك بعد عودتي من العمرة كما أني إذا حضرت فسوف أسافر إليك وأنا قد أصبحت أخاف السفر وأخاف الخروج من البيت وكلما هممت بالخروج تذكرت ما حدث "لمن خرج من داره" ولولا العمرة وإحساسي بأني إنما مسافر الى الله ما سافرت ولا تحركت رغم ذلك فاكتئابي يشعرني بأنني حتى إذا ذهبت الى الأراضي الحجازية فسوف تدخل إليها قوات ((الأشاوس)) وستكون النهاية أيضا .. وليتها تكون نهايتي وحدي فقد أصبحت أحس أني ((شؤم)) لكني أعود وأتذكر قول الله سبحانه وتعالى :
(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) ..
فأهدأ قليلا واسلم أمري الى من بيده الأمر وفي الختام قل لزوجتي ما تشاء ((فقد لاحظت إنها أول مرة اكتب عنها في هذه الرسالة بكلمة (زوجتي) .. فلعلها بشرى خير)) قل لها ما تشاء يا أخي .., ولك الوعد الصادق مني .. والحقيقة أني لا أستطيع تنفيذه .. وهو عموما غير وارد في تفكيري بصورة أكيدة .. لكنه يظهر في راسي في لحظات اليأس .. فانا اعلم أنني لا أستطيع الاستغناء عن الطبيبة اقصد عن زوجتي وأم ولدي ..
والله المعين والسلام عليكم ورحمة الله .

ولكاتب هذه الرسالة أقول :
اذهب يا صديقي لأداء عمرتك .. وتوجه بقلبك الى خالقك واستنصره على شدتك واشرب من ماء زمزم .. وقف بباب الملتزم واسكب عبرتك حيث تسكب العبرات وتطهر آلامك .. وثق من انك تمضي في الطريق الصحيح لاجتياز آثار هذه المحنة القاسية .
وما إمساكك بالقلم لتكتب عنها إلا خطوة على هذا الطريق , ومؤشر عن ان فوران أحزانك الداخلية بدا ينزل عن درجة الغليان .
لقد كنت تتجنب الإشارة الى ما حدث بأي صورة من الصور مع أي إنسان في الوجود حتى مع زوجتك وتناقشه في كل لحظة مع نفسك على لهيب النار التي تتأجج في أعماقك والآن قد استطعت أن تناقش الأمر مع إنسان آخر خارج حدود نفسك .., وحتى لو جرى ذلك على الورق وعن بعد .
ولن يمضي وقت طويل حتى تجد في نفسك القدرة على مناقشته بعقلانية وهدوء مع زوجتك الفاضلة .., وعندها سوف تقتنع أنت لا هي لأنها مقتنعة تماما بأن لم يكن في مقدورك أن تفعل إلا ما فعلت .. وبأن ما جرى لا يتناقض مع ماضيك في الصلابة والايجابية والشجاعة وتحدي الصعاب .. ولا مع اعتماد زوجتك عليك واستمدادها القوة منك , فالشجاعة لا تتعلق بالمستحيل .. وأشجع الشجعان يترددون أمام الموت لأن الخوف أمام الموت إحساس طبيعي عند البشر الأسوياء , وأنت قد حميت زوجتك وطفلك من الموت حين أدركت الفارق بين الممكن والمستحيل فاخترت جانب زوجتك وطفلك رغم قسوة الاختيار .. وما كان أيسر عليك من أن تتحرك حركة واحدة للأمام لحظة الجريمة فترديك رصاصة غادرة وتحكم على زوجتك وطفليك بالهلاك وتستريح أنت من كل ما تعانيه الآن من آلام !لكن الشجاعة الحقيقية ليست في الانتحار وإنما في إنكار الذات وتقدير المسئولية وتفضيل سلامة الأعزاء .. لهذا لم يقل أحد أبدا أن الانتحار شجاعة وإنما قيل دائما أنه الجبن الحقيقي واختيار الفرار من الحياة حلا للمشاكل , وهذا ما لم تفعله أنت إذن فإيجابيتك وتقديرك للمسئولية عن أسرتك هما عنوان رجولتك وشجاعتك الحقيقية .. وليس أي شيء آخر إنني أدرك عمق معاناتك والتمس لك فيها كل العذر لكني أطالبك بالحكمة والعدل مع نفسك وعدم الانزلاق الى هاوية تحقير الذات لأمر لم يكن لك فيه حيلة ولا لأي إنسان آخر لولا أني لا أريد أن أنشر المزيد من هذه القصص الدامية بعد ما أثارته رسالة زوجتك الفاضلة من مشاعر الألم لدى القراء لرويت لك ما هو أبشع من قصتك بكثير ..
وحبذا لو أرسلت إلي عنوانا ولو بغير اسم وليكن عنوان صندوق بريد لأرسل إليك هذه الرسائل ولتعرف أنك قد تصرفت التصرف الوحيد الذي كان متاحا أمامك في مواجهة هذا القهر البشع .
يا صديقي هديء من روعك فأنت مازلت موضع انبهار زوجتك بحكمتك ونبلك وشجاعتك في تفضيل إنقاذ زوجتك وطفليك على حساب ألامك ومعاناتك الشخصية .. وهكذا كنت دائما- ومازلت- فارسها الشهم ومنقذها وسندها وحصن أمانها ضد غوائل الحياة .., وليست رسالتك في الحقيقة سوى شهادة جديدة لها بعفتها وفضائلها ومزاياها وجدارتها بألا تتخلى عنها وبأن تقف الى جوارها في محنتها وبان تتساندا معا لاجتياز أثارها .. ثم تتركا للزمن بعد ذلك أن يداوي الجراح ويشفي الآلام .. الى الأبد ان شاء الله .
انشر
-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;