الاثنين، 16 نوفمبر 2015

رسالة (كفاح في ظل حب .))..أنا شاب عشت تجربة فريدة

أنا يا سيدي شاب عشت تجربة فريدة أود أن أضعها أمام قرائك ليستفيدوا منها مثلما أستفيد أنا من تجارب الآخرين التي اقرؤها في هذا الباب ..
فقد نشأت في أسرة ميسورة الحال .. ووالدي ضابط شرطة وصل إلى أعلى رتيها .. وهو ابن باشا سابق .. أما والدتي فسيدة مجتمعات مثقفة جدا ، ولي شقيقة وشقيق يشغلان الآن وظيفتين محترمتين جدا .. وأنا الابن الأكبر لأبوي .. وقد نشأنا جميعا في جو ارستقراطي .. يهتم كثيرا بالشكليات والتقاليد وكل شئ فيه بمواعيد ونظام .. وصداقتنا العائلية كلها من نفس المستوى .
ولأسباب لا أعرفها حتى الآن وجدت نفسي لا أميل كثيرا إلى هذه الحياة .. ولا أجد نفسي في صداقات الشبان والفتيات من وسطنا الاجتماعي .. فاتجهت صداقاتي كلها إلى الشبان البسطاء المكافحين مما جعلني موضع نقد من أفراد أسرتي الذين اتهموني بأني لا أحافظ على مستواي الاجتماعي !.

ولأن أبي قد ورث عن أبيه ميراثا ضخما فقد كنا نعيش حياة مترفة وعندما التحقت بكلية الطب كانت لي سيارة بويك كبيرة أذهب بها إلى الكلية وكثيرا ما رجوت أبي أن يستبدلها لي بسيارة صغيرة لكيلا أشعر بالحرج من زملائي وأساتذتي فكان يرفض بإصرار وكنت أتعمد تركها بعيدا نسبيا عن مبنى الكلية .

وأثناء دراستي بالكلية ارتبطت عاطفيا بإحدى زميلاتي شدتني إليها بساطتها ولمست في أعماقها حنان الدنيا فضلا عن جمالها وذكائها وكانت متفوقة وكنت أيضا متفوقا وتعاهدنا على الارتباط الأبدي بإذن الله وجاء يوم التخرج ونجحنا نحن الاثنين بتقدير عال .. وجاءت اللحظة التي ينبغي أن أحول فيها حلمنا إلى حقيقة ، وفاتحت أسرتي برغبتي في خطبتها ودعوتها لزيارتنا فجاءت ورآها أبي وأمي وإخوتي وأعجبوا جميعا بجمالها وهدوئها وذوقها في اختيار ملابسها .

وبعد الزيارة سألني أبي عن مهنة أبيها وما إن أجبته حتى انفجرت داخله براكين الغضب وهب واقفا يحطم بيديه الأكواب التي أمامه ويعلن بكل إصرار أن هذا الزواج لن يتم أبدا .. أتدري لماذا ؟ لأن والد حبيبتي حلاق ..
نعم حلاق وأقولها بكل فخر واعتزاز لأنه رجل شريف مكافح أدى واجبه تجاه أسرته وحقق مالم يحققه بعض “الباشوات” فأهدى إلى الحياة ثلاثة أطباء ومهندسا معماريا وضابطا رغم أنه لم ينل حظا كافيا من التعليم .وانحازت أمي إلى جانب أبي وانحاز معهما شقيقي وشقيقتي ووجدت نفسي وحدي . أتساءل ماذنبي أنا وفتاتي في أن يحرم كل منا من الآخر ..
وأنا لم أعرف للدنيا معنى إلا بعد أن أحببتها وقررت أن أدافع عن حبي وحياتي وتوجهت إلى بيت حبيبتي وقابلت أباها .. وأعطيته صورة صادقة عن الموقف ففوجئت به بعد أن عرف بمعارضة أسرتي يرفض هو أيضا زواجي من ابنته ويقسم أنه لن يسمح بذلك لأنه لا يرضى لنفسه ولا لأسرته أن يقال عنهم أنهم “ضحكوا علي” وخطفوني من أسرتي ، وحين رأى تمسك ابنته بي أعلن بكل وضوح أنه سيتبرأ منها لو تزوجتني على غير إرادته وإرادة أسرتي .

ووجدنا نفسينا حائرين .. أسرتي ترفض بسبب نظرة اجتماعية بالية .. وأسرة حبيبتي ترفض دفاعا عن كرامتها ..

وقررت بعد تفكير طويل أن أضع حدا لهذا العذاب .. فاصطحبت فتاتي ذات يوم ومعي صديقان إلى مكتب المأذون وأخرجنا بطاقتينا وطلبنا منه عقد زواجنا .. وحين قال لي قل ياسيدي : قبلت زواجك على سنة الله ورسوله وعلى الصداق المسمى بيننا وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه .. انهمرت دموعي ودموعها ودموع صديقي .. وخرجنا من مكتبه زوجين أمام الله والناس لنواجه قدرنا وحدنا – بلا سند إلا الله سبحانه وتعالى – ولم تتأخر المتاعب طويلا ، فما إن علم أبي بما حدث حتى طردني سامحه الله من البيت وسحب مني سيارة الأسرة فخرجت من البيت أحما حقيبة ملابسي الصغيرة وفي جيبي سبعة جنيهات هي كل ما بقي معي بعد أجر المأذون وما إن علم أبوها بما جرى حتى طردها هي أيضا فخرجت من البيت ومعها حقيبة ملابس صغيرة وأربعة جنيهات ، ووجدنا نفسينا في الشارع بلا مأوى .. وكنا في شهر فبراير ولم يبق سوى شهر على تسلم عملنا كطبيبي امتياز في الشهر التالي حيث سيتقاضى كل منا أربعين جنيها وكانت ليلة طردنا شديدة البرودة .. فجلسنا في محل نحتمي داخله من الصقيع ونفكر فيما سنفعل .. وكلما مرت ساعة ولم نجد مأوى ازداد خوفنا .. حتى جاء الفرج ونجحت في الاتصال بأحد أصدقائي واقترضت منه خمسين جنيها وذهبنا إلى إحدى اللوكاندات الشعبية الرخيصة .. وحين احتوتنا الغرفة المتواضعة لأول مرة .. كان كا منا يعرف في أعماقه أن أمامنا أياما صعبة لن يخفف منها سوى عطف كل منا على الآخر وحمايته له .. وعشنا في اللوكاندة فترة تسلمنا خلالها العمل في المستشفى ثم وفق الله أحد أصدقائي في أن يجد لنا شقة من حجرتين على الطوب الأحمر في بيت صغير في زقاق ضيق بأحد الأحياء الشعبية ، وكانت هدية من السماء لأن صاحبها كان في حاجة إلى نقود فقبل تأجيرها لنا بلا مقدم ولا خلو بخمسة وعشرين جنيها .. وفرحنا بها فرحة كبرى وأسرعنا ننتقل إليها .. واشترينا أول أثاث عرفناه لبيتنا .. وكان مرتبة من الاسفنج ووسادتين ومكتبا خشبيا صغيرا وكرسيين ووابور بوتاجاز وبرادا وكوبين وحلتين فقط لا غير !.

وفي هذا العش الهادئ عشنا حياتنا سعداء بوجودنا معا لا يزعجنا فيه شئ سوى كثرة الفئران والحشرات .. وكانت زوجتي قوية الإرادة فتعاهدنا أن نبني حياتنا دون مساعدة من أحد .. وكانت أيضا مدبرة فكان مبلغ الخمسة والخمسين جنيها التي تتبقى لنا بعد دفع الإيجار تكفينا طوال الشهر للأكل والمواصلات ولكن بلا أي ترفيه أو شراء ملابس ، وأحبنا جيراني البسطاء وأحببناهم .. وكانوا يشفقون علينا من شظف حياتنا ويتعجبون من سوء حالنا ونحن طبيبان حتى قال لي أحدهم مرة بتلقائية غريبة : إحنا كنا فاكرين إن الدكاترة كلهم حرامية لكن ياما في الحبس مظاليم !.

وخففت عنا صداقتهم بعض صعوبة الحياة فكانت جاراتنا يعرضن خدماتهن على زوجتي بشهامة مألوفة عندهن فتطلب مننها جارة مثلا ملابسنا لكي تغسلها لأننا طبيبان مشغولان بالعمل .. وتتطوع أخرى بشراء حاجيات البيت لها .. وتصر ثالثة على أن تشاركها تنظيف الشقة بهمة . وأنا أتذكر هذه الأشياء البسيطة الآن .. لأني كثيرا ما وجدت فيها تعويضا لنا عن جفاء أهلنا لنا وقسوتهم علينا في هذه الأيام الصعبة رغم علمهم بكل ظروفنا ففي مقابل هذا العطف من الجيران البسطاء .. لم يحاول أحد من أهلنا زيارتنا أو السؤال عنا .. بل ولم يتركونا أيضا في حالنا ففوجئت في إحدى الليالي وأنا وزوجتي نائمين بعد يوم شاق في العمل بأربعة وحوش يقتحمون شقتنا .. ويحطمون المكتب والكرسيين .. ويمزقون المرتبة الوحيدة التي ننام عليها وكتبنا وأوراقنا ويسبوننا بأفظع الشتائم .. بحجة أنهم يفتشون الشقة ثم خرجوا ورئيسهم يهددني : أنتم لسه شفتم حاجة .. عشان تبقى تتحدى الباشا! يقصد أبي الذي كان ترقى وقتها إلى رتبة اللواء !.

وخرج الرجال الأربعة .. وانحنينا نحن نلملم الاسفنج الممزق الذي خرج من بطن المرتبة ونعيد حشوها ونخيطها .. ونجمع كتبنا الممزقة .. ونحاول إصلاح المكتب والكرسيين .. ثم غلبنا التعب فنمنا على المرتبة وقد أمسك كل منا بالآخر بقوة كأنه يحتمي به مما تخفيه له الأيام .. وبالفعل فلقد انتابني الإحساس بأن أبي لن يدعنا في حالنا .. وتحققت مخاوفي حين أبلغني صديق لي أن أبي يدبر أن يلفق لزوجتي قضية آداب ! هل تصدق ذلك .. هذا ما حدث والله العظيم ولم يرجع أبي عن نيته إلا بعد أن أقسم له صديقي أنه سيقنعني بتطليقها .. لكيلا أعاند وأتمسك بها أكثر لو حدث لها مكروه وأصبحت مهمة صديقي هي أن يزوره كل عدة أيام ليطلب منه الصبر .. حتى ينجح في إقناعي لإضاعة الوقت لعله يهدأ وينساني قليلا .. وخلال ذلك جاءت فترة التجنيد وأمصيت عاما لا أتقاضى فيه سوى ستة جنيهات كل شهر وكنت أعمل لهذه الفترة ألف حساب .. لكن الله لم ينسنا فوجدت زوجتي عملا في مستوصف قريب من البيت وأصبحت هي التي تتولى الإنفاق على الأسرة .

وانتهت فترة التجنيد وخرجت من الجيش لأجد زوجتي مصممة على تسجيل الماجستير لي وظننت أن عقلها قد أصابه شئ ! لأني كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء فترة الجنيد لكي نبحث عن عمل في الخارج .. لنعيش حياتنا ولنهرب بعيدا عن قسوة الأهل وتربصهم لنا ، لكنها صممت وقالت لي إننا متفوقان وقد صمدنا للضيق والشدة والمضايقات فلماذا لا نكمل مشوارنا العلمي ثم نحقق بعد ذلك أحلامنا ؟

واستجبت لاقتراحها مرغما ومعجيا بها وبقوة إرادتها في نفس الوقت وسجلت أنا وهي للماجستير .. وبدلا من أن نستريح بعدما لقيناه .. بدأنا نستعد لفترة أخرى أشد قسوة ومرارة .. لأن الماجستير يحتاج إلى تكاليف وإلى كتب وإلى عناء كثير .

وبدأنا نذاكر للماجستير .. وقاسينا من الضيق والحاجة أشد مما قاسيناه طوال زواجنا .. ويكفي أن أقول لك إن طعامنا خلال الشهرين ألأخيرين من الدراسة كان لا يتجاوز الخبز والدقة والملح والماء تقريبا وأننا كثيرا ما قاسينا الجوع في ليالي المذاكرة الطويلة .. ولم نكن نجد ما نسكته به سوى الماء ، وما زلت أذكر حتى الآن أني أسرفت ذات ليلة في شرب الماء لكي أتقي الجوع فانقلبت معدتي وتقيأت وشعرت بالجوع أكثر وأكثر ولم نجد بدا من التضحية ببضعة قروش فخرجت في الليل أبحث عن شئ يؤكل .

ورغم ذلك كنا سعداء .. ولم نشك يوما .. ولم نندم .. ولم أر زوجتي مرة باكية .. حزينة .. أو غاضبة لأي سبب من الأسباب .. بل كلما رفعت رأسي عن الكتاب متململا وجدتها تنظر لي بعينيها الجميلتين والابتسامة الحبيبة تغطي وجهها .. فأبتسم لها ثم أحني رأسي مرة أخرى على الكتاب .. وقد زال ضيقي .

وكلل الله جهودنا بالنجاح فحصلنا على الماجستير في زمن قياسي خلال عامين فقط .. لكن أزمتنا لم تنفرج بل عشنا عاما آخر بعد الماجستير نعاني من شظف العيش وننام فوق المرتبة وليس في حياتنا أية نسمة راحة حتى وفقني الله بعد جهد جهيد في الحصول على عقدي عمل لي ولزوجتي في إحدى الدول ولأول مرة بعد 5 سنوات من العناء عرفت حياتنا أول لحظة راحة .. فعشنا في شقة جميلة وعرفنا النوم على الفراش .. وعرفنا التليفزيون بعد أن كنا قد نسيناه .. وعرفنا الطعام الجيد بعد أن كنا قد ودعناه منذ 5 سنوات وخلال عامين كنا قد تمكنا من شراء شقة تمليك في أحد أحياء القاهرة وأثثناها .. واشتاقت نفسي للعودة إلى بلدي بعد أن وجدنا لأنفسنا فيها مأوى كريما ، لكن حبيبتي “المجنونة” خرجت علي مرة أخرى بطموح جديد وهو أن نحصل على زمالة كلية الجراحين الملكية بلندن .. وبنفس المنطق نحن متفوقان .. وقد مضت أيام الشدة ولدينا الآن النقود التي تسمح لنا بالإنفاق على الزمالة .. إلخ .. وباختصار : حصلنا على الزمالة من لندن بتوفيق من الله .. وبجدنا واجتهادنا .. وبعد الحصول على الزمالة تعاقدنا للعمل في دولة أخرى بمرتبين خياليين وتقدمنا في عملنا فأصبحت مديرا فنيا للمستشفى الذي أعمل به وأصبحت زوجتي مديرة للقطاع الطبي بالشركة التي تعمل بها .. ورزقنا الله بطفلة جميلة لم أتردد في أن أسميها باسم شريكة كفاحي وشقائي وسعادتي .. زوجتي .

وبعد 3 سنوات من الغربة عدنا إلى القاهرة في إجازة .. وفي داخلي تصميم على شئ لم أصارح به زوجتي إلا بعد وصولنا لمصر بأسبوع ، هو
أن نحتفل بزفافنا الذي لم نحتفل به يوم تزوجنا منذ 8 سنوات لأن من حق حبيبتي أن ترتدي ثوب الزفاف الأبيض
الذي لم ترتديه .. وأن أرتدي بدلة الفرح التي لم يكن لي مثلها حين تزوجت .. وصممت ونفذت وتحديت الجميع وأقمت حفل الزفاف في نادي الشرطة ! ودعوت كل أصدقائي الذين وقفوا إلى جوارنا في وقت الشدة .. وتصدر الحفل جيراني البسطاء في شقة الطوب الأحمر فرحين مندهشين ودخلت القاعة مع زوجتي بثوب الزفاف وأمامنا المشاعل والشموع وفرقة الزفة .. وطفلتي تجري بين أقدام المدعوين وتضحك سعيدة وهي لا تدري أنه حفل زفاف أبويها ! ونمت ليلتها قرير العين شاكرا لربي نعمته التي أنعمها عليّ .

إنني أكتب إليك الآن لأني سعيد وراض عن كفاحي لأقول لكل إنسان إن الصبروالكفاح يحققان للإنسان ما يريده لنفسه وأن على كل إنسان ألا ييأس من رحمة الله لأن لكل شدة نهاية ولكل ضسق آخر وعلينا فقط أن نؤدي واجينا تجاه أنفسنا ثم نسلم الأمر للخالق جل شأنه ليختار لنا ما يشاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

انشر
-

هناك تعليق واحد:

  1. رائعه
    ومن الحياه دروسا تأخذ بأيدينا للنجاح

    ردحذف

;